احصائية الزوار

الاحصائيات
لهذا اليوم : 18
بالامس : 24
لهذا الأسبوع : 376
لهذا الشهر : 1363
لهذه السنة : 15816

المتواجدين الآن

يتصفح الموقع حالياً  10
تفاصيل المتواجدين

ضابط مفهوم ما خرج مخرج الغالب وأسبابه

المقال

ضابط مفهوم ما خرج مخرج الغالب وأسبابه

115 | 11-08-2024


الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على عبده ونبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فهذه مقالة عن ضابط مفهوم ما خرج مخرج الغالب وأسبابه، أجملها في الأمور الآتية:

الأمر الأول: قسَّم الأصوليون المفهوم إلى عدة أقسام، وجمهورهم ذهب إلى تقسيمه إلى قسمين: مفهوم الموافَقة، ومفهوم المخالَفة[1].



والمقصود بمفهوم الموافقة: أن يكون الْمَسكوتُ موافِقًا للمنطوق في الحكم[2]. وأما مفهوم المخالفة فهو «الاستدلال بتخصيص الشيء بالذكر على نفي الحكم عَمَّا عداه»[3].



واختلف العلماء في تخصيص الشيء بالذِّكْر هل يدل على نفي الحكم عمَّا عداه؟ إلى قولين:

القول الأول: لا يكون في اختصاص الشيء بالذِّكْر دلالَةٌ على نفيه عمَّا عداه؛ بل هو مسكوت عنه، ويثْبُت حكمُه موافِقًا للمنطوق أو مُخالِفًا بدليل آخر، وبه قال الحنفية[4]، وبعضُ المالكية[5]، وبعضُ الشافعية[6]، وابنُ حزم ونَسبه إلى جمهور الظاهرية[7].



القول الثاني: تخصيص الشيء بالذِّكْرِ دليلٌ على نفي الْحُكْم عمَّا عداه، وحُجَّةٌ تَثْبُت بها الأحكام ما لم يمنع من ذلك مانع، وبه قال بعض الحنفية[8]، وأكثر المالكية[9]، وجمهور الشافعية[10]،والحنابلة[11].



واشترط القائلون بِحُجِّيَّة مفهوم المخالفة شروطًا للقول بحجيته، على خلاف بينهم في عدِّها، فمنهم الْمُقِلُّ ومِنْهم الْمُكثِر، وذكروا أن التخصيص بالذِّكْر يُلغَى مفهومه ولا يُحْتَجُّ به في مواضع، ومن تلك المواضع: أن يكون تخصيصه بالذكر خرج مخرج الغالب[12]، كقوله: ﴿ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ ﴾ [النساء: 23]؛ لأن الغالب في الربيبة كونها في حجر زوج أمها. فهي فائدة أخرى غير نَفْيِ الحكم عمَّا عدا المسكوت عنه، والقول بالمفهوم يشترط له ألَّا يَظهَر لتخصيص الشَّيء بالذكر فائدةٌ غَيْرُ نَفْيِ الحكم عمَّا عدا المسكوت عنه، فإن دلَّ دليلٌ على وجُودِ فائدة أخرى غيرِ التخصيص بالذكر بطل التَّعلُّق بالمفهوم، وقد نُقِلَ الاتِّفاقُ على هذا الشرط[13].



الأمر الثاني: استشكل عز الدين بن عبدالسلام عدم اعتبار المفهوم إذا خرج مخرج الغالب، وقال باعتبار المفهوم إن خرج مخرج الغالب الجويني[14]، ونُقل عنه التراجع[15].



وذكر القرافي استشكال عز الدين، وأجاب عنه في كتبه[16]، ثمَّ ذكر ضابطًا يراه مناسبًا للتفريق بين ما خرج مخرج الغالب، وما لم يخرج مخرج الغالب. فقال في كتابه الفروق: (الفرق الثاني والستون: بين قاعدة المفهوم إذا خرج مخرج الغالب، وبين ما إذا لم يخرج مخرج الغالب)، وفيه قال: «وضابطه أن يكون الوصف الذي وقع به التقييد غالبًا على تلك الحقيقة وموجودًا معها في أكثر صورها، فإذا لم يكن موجودًا معها في أكثر صورها فهو المفهوم الذي هو حجة، وسرُّ الفرق بينهما أن الوصف إذا كان غالبًا على الحقيقة يصير بينها وبينه لزوم في الذهن، فإذا استحضر المتكلم الحقيقة ليحكم عليها حضر معها ذلك الوصف الغالب؛ لأنه من لوازمها، فإذا حضر في ذهنه نطق به؛ لأنه حاضر في ذهنه فعبَّر عن جميع ما وجده في ذهنه لا أنه قصد بالنطق به نفي الحكم عن صورة عدمه، بل الحال تضطره للنطق به[17]، أما إذا لم يكن غالبًا على الحقيقة لا يلزمها في الذهن، فلا يلزم من استحضار الحقيقة المحكوم عليها حضوره، فيكون المتكلم حينئذٍ له غرض في النطق به وإحضاره مع الحقيقة، ولم يكن مضطرًّا لذلك بسبب الحضور في الذهن، وإذا كان له غرض فيه، وسلْبُ الحكمِ عن المسكوت عنه يصلح أن يكون غرضه، فحملناه عليه حتى لا يصرح بخلافه؛ لأنه المتبادر للذهن من التقييد، وهذا هو الفرق بين القاعدتين، وسرُّ انعقاد الإجماع على عدم اعتباره»[18].



وكلامه واضح، وزاده وضوحًا حين ذكر ثلاث مسائل لتوضيح الفرق بين القاعدتين، وسأكتفي بذكر المسألة الأولى.



قال القرافي: «وأورد لك ثلاث مسائل توضِّح لك القاعدتين والفرق بينهما.



المسألة الأولى: قوله - عليه السلام – (في الغنم السائمة الزكاة) [19]، أو (زكوا عن الغنم السائمة) استدلَّ به الشافعية على عدم وجوب الزكاة في المعلوفة، ولا دليل فيه لوجهين:

الأول: أنه خرج مخرج الغالب، فيكون من المفهوم الذي ليس حجة إجماعًا؛ لأن السوم يغلب على الغنم في أقطار الدنيا، لا سيما في الحجاز؛ لعزة العلف هنالك، والاستدلال بما ليس حجة إجماعًا لا يستقيم.



الثاني: أن هذا مفهوم وإن سُلِّم أنه حجة فهو معارض بالمنطوق، وهو قوله - عليه السلام -: (في كل أربعين شاة شاة)[20] فهذا الاستدلال باطل»[21]؛ ا هـ.



قلت: والوجه الذي يهمنا هو الوجه الأول، وهو مبني على أن السوم صفة غالبة على الغنم - الحقيقة -، وأكد هذه الغلبة بكون العلف يعز في بلاد الحجاز، وكونه عزيزًا هو ما جعل صفة السوم غالبة على الغنم، وملازمة له في الذهن بسبب هذه الغلبة، بحيث لو استحضر المتكلِّم الغنم ليحكم عليها فإن صفة السوم هي الحاضرة مع ذكر الغنم، ويكون النطق بالسوم لأجل هذا الحضور الذهني، لا لقصد التقييد بها، وإخراج ما عداها، وما لم يكن مقصودًا فإنه لا يلتفت إليه.



ولم أقف على من أيَّد هذا الضابط بصريح اختياره، وإنما وقفت على ملاحظته عند التطبيق، في قول الطاهر بن عاشور في قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ﴾ [النبأ: 40]، حيث قال: «والمرء: اسم للرجل؛ إذ هو اسم مؤنثه امرأة. والاقتصار على المرء جرى على غالب استعمال العرب في كلامهم، فالكلام خرج مخرج الغالب في التخاطب؛ لأن المرأة كانت بمعزل عن المشاركة في شؤون ما كان خارج البيت. والمراد: ينظر الإنسان من ذكر أو أنثى، ما قدمت يداه، وهذا يعلم من استقراء الشريعة الدال على عموم التكاليف للرجال والنساء إلا ما خص منها بأحد الصنفين؛ لأن الرجل هو ‌المستحضر ‌في ‌أذهان المتخاطبين عند التخاطب»[22].



وأشار إليه كذلك عند قوله تعالى: ﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ﴾ [الأحقاف: 35]، فقال الطاهر بن عاشور: «و﴿ مِنْ نَهَارٍ ﴾ (مِنْ) فيه تبعيضية صفة لساعة، وهو وصف غير مراد منه التقييد؛ إذ لا فرق في الزمن القليل بين كونه من النهار أو من الليل، وإنما هذا وصف خرج مخرج الغالب؛ لأن ‌النهار ‌هو ‌الزمن ‌الذي ‌تستحضره الأذهان في المتعارف، مثل ذكر لفظ الرجل في الإخبار عن أحوال الإنسان؛ كقوله تعالى: ﴿ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ ﴾ [الأعراف: 46]، ومن هذا ما وقع في الحديث: ((وإنما أُحِلَّت لي ساعة من نهار))[23] ، والمقصود ساعة من الزمان، وهي الساعة التي يقع فيها قتال أهل مكة من غير التفات إلى تقييد بكونه في النهار وإن كان صادف أنه في النهار»[24].



تنبيه: لا يكفي مجرد الغلبة لنفي اعتبار المفهوم؛ بل يجب أن تكون الغلبة بحيث تجعل المقيَّد ملازمًا له في الذهن، بحيث لا يخطر في ذهنه الوصف المخالف، وهذا مقتضى قول القرافي بأنها ضرورية، وملازمة لا تنفك، وذلك بقوله: «وهو أنه اضطر للنطق به بخلاف غير الغالب».



لكن ينبه إلى أن الغلبة قد تكون محل خلاف، وقد تكون نسبية، فالسوم في مثال القرافي لم يعتبره الشافعي، وهكذا كل مسألة وقع الخلاف فيها، مع اتفاق الخَصْمين على عدم العمل بما خرج مخرج الغالب، كما أن الغلبة مرتبطة بوقت نزول الخطاب، وربما يكون في مكان دون مكان؛ لذا سبق قول القرافي عن سوم الغنم، ولا سيَّما في الحجاز لقلة من يعلف، وقد ترتبط الغلبة بالواقع والعادة، وتكون هذه العادة متغيرة، وحينئذٍ هل يلغى ذلك المفهوم أو لا؟ محل نظر، وأقرب مثال له ما حصل من الصحابة في قصر الصلاة بعد الأمن، من مفهوم قوله: ﴿ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا ﴾ [النساء: 101].



قال ابن كثير في تفسيره: « وأما قوله: ﴿ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ فقد يكون هذا ‌خرج ‌مخرج ‌الغالب ‌حال نزول هذه الآية، فإن في مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة»[25].



والقصد أن ثمة مسائل ترتبط بكون هذه المسألة داخلة في ما هو مجمع على عدم اعتباره، وليس ظهور الغلبة في جميع المسائل على درجة واحدة؛ لذا يقول ابن أمير الحاج بعد ذكره لجواب القرافي على استشكال الشيخ عز الدين: « الذي أراه أن ذلك لا يسقط التعليق بالمفهوم لكن ظهوره أضعف من ظهور غيره»[26].



الأمر الثالث: مما سبق يظهر لي أن ضابط القرافي ضابط اجتهادي، بدليل الخلاف في وقوع الخلاف في اعتبار كثير مما قيل إنه خرج مخرج الغالب، مع صعوبة تنزيل هذا الضابط مع وجود النسبية - كما سبق - في كونه غالبًا أو غير غالب، والله أعلم.



لذا ينبغي استحضار أسباب خروج هذه المفاهيم مخرج الغالب، مع ما ذكره القرافي حتى ربما كان أضبط في الوقوف على الغلبة المانعة من المفهوم.



وهذا يتوقف على إجراء دراسةٍ على المفاهيم التي اتفق أهل العلم على خروجها مخرج الغالب، في أدلة الشرع، من كتاب وسنة؛ إذ إن الاستقراء للأدلة قد يخرج بالمستقري قواعد وأسباب يحاكم عليها المختلف فيه من النصوص في كونه خرج مخرج الغالب.



وقد جمعت ووقفت على كلام المُفسِّرين فيما قيل إنه خرج مخرج الغالب - سواء كان محل اتفاق بينهم أو قال به غالبهم، أو كان من استنباط آحادهم- على نيف وستين آية، ومن خلال النظر فيها، حاولت إرجاع الغلبة في الآيات إلى: الاستعمال الشرعي، أو اللغوي، أو العرفي، وأمثل للجميع بأمثلة مجملة، تحت الأسباب الآتية.

السبب الأول: الغلبة بسبب الاصطلاح الشرعي:

يدخل في الاستعمال الشرعي خطاب الشارع وأمره وقدره، وما كان من السنن الكونيَّة، ومن خطابه في أمره ونهيه خطاب الشارع في أحكامه المؤمن أو المؤمنة، وإرادة الكافر معه، وقد قرر العلماء تكليف الكافر بأصول الشريعة، وكثير منهم قال بتكليفه بفروع الشريعة.



ومن أمثلة ذلك: قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ﴾ [الأحزاب: 49].



قال ابن كثير في تفسيره: «هذه الآية الكريمة فيها أحكام كثيرة، منها:... وفيها دلالة لإباحة طلاق المرأة قبل الدخول بها، وقوله: ﴿ الْمُؤْمِنَاتِ ﴾ خرج مخرج الغالب؛ ‌إذ ‌لا ‌فرق ‌في ‌الحكم ‌بين ‌المؤمنة ‌والكتابية في ذلك بالاتفاق...» [27] ثمَّ ذكر بقية الأحكام.



ومثله كذلك مخاطبة الحرَّة وإرادة الأمة معها، وخطاب الرجل وإرادة المرأة معه، وخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم وإرادة أمته معه، وكل ما سبق كثير وظاهر.



يقول الطاهر بن عاشور في قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ ﴾ [النساء: 102]: «ومحمل هذا ‌الشرط ‌عندهم ‌جارٍ على غالب أحوالهم يومئذٍ من ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم لغزواتهم وسراياهم إلا للضرورة... فليس المراد الاحتراز عن كون غيره فيهم، ولكن التنويه بكون النبي فيهم»[28].



ومن أمثلة خطاب الشارع في حكمه وقدره وسننه الكونية ما يأتي:

قال تعالى: ﴿ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ﴾ [القيامة: 37 - 39]، قال ابن العربي: «وقد احتج بهذا من رأى ‌إسقاط ‌الخنثى، وقد بيَّنا في سورة الشورى أن هذه الآية وقرينتها إنما خرجتا مخرج الغالب»[29]. وقال في سورة الشورى: « فهذا إخبار عن الغالب في الموجودات»[30].



ومثله قوله تعالى في العسل: ﴿ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ﴾ [النحل: 69]. هل الشفاء الذي فيه يختص بمرض دون غيره أم لا؟ قال ابن الجوزي بعد أن ذكر أن الصحيح أن ذلك خرج مخرج الغالب: «قال ابن الأنباري: الغالب على العسل أنه يعمل في الأدواء، ويدخل في الأدوية، فإذا لم يوافق آحادَ المرضى، فقد وافق الأكثرين، وهذا كقول العرب: الماء حياة كل شيء، وقد نرى من يقتله الماء، وإِنما الكلام على الأغلب... إلخ»[31].



ومثله قوله تعالى: ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾ [الحج: 7]، والتعبير بـ ﴿ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾: خرج مخرج الغالب، ‌وإلَّا ‌فهو ‌يبعث ‌كل ‌من ‌يموت. والله تعالى أعلم وأحكم.



السبب الثاني: الغلبة بسبب الاصطلاح اللغوي:

ما ورد في الشرع يكون واردًا هنا؛ لأن الخطاب الشرعي نزل بلسان العرب وعلى طريقة استعمالهم ومعهود كلامهم، ومن أمثلة ذلك: تعبيرهم بالأكل وإرادة التصرف وإتلاف المال، كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾ [البقرة: 188] [32].



وعليه فينبغي معرفة أساليب الغلبة التي تكون معهودة في كلامهم، والوقوف عليها، لمعرفة إن كان المقصود منها التقييد من عدمه، ومن تلك الأساليب: المبالغة التي يقصد منها معانٍ مختلفة؛ كالتشنيع في قوله تعالى: ﴿ لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ﴾ [آل عمران: 130]، فإنه لا يدل على جواز أكل قليل الربا، أو ما لم يكن أضعافًا مضاعفة.



يقول الطوفي: «هذا خرج مخرج الغالب، أو حكاية حالهم في أكل الربا، أو ‌التعريض ‌بالتشنيع ‌على ‌أكلته، كذلك فلا مفهوم حتى لو أكله آكل لا أضعافًا مضاعفة لكان حرامًا أيضًا»[33].



السبب الثالث: الغلبة بسبب الاصطلاح العرفي:

والغلبة هنا تضم أنواعًا كثيرة، بسبب مخاطبة الشارع لهم في تكليفهم على أفعالهم وأعمالهم المعتادة في سائر حياتهم، أو كانت معتادة لهم في وقت أو مكان معين، فنزل الخطاب الشرعي لبيان واقع حالهم، لا لقصد تقييد الحكم به.



وأنبه إلى أن خروج الخطاب لبيان الواقع يعتبر عند أهل العلم مانعًا من موانع المفهوم غير مانع خروج مخرج الغالب، إلَّا أن بينهما عمومًا وخصوصًا مطلقًا؛ إذ الخارج لبيان الواقع قد يكون لبيان واقعة معيَّنة، ليست هي غالبة، وإنما تعرف من خلال الوقوف على سبب نزولها، وعليه كل ما كان معتادًا كان هو الواقع، وليس العكس - والله أعلم - ولذا يكثر توارد المانعين في رد المفهوم في خطاب الشارع؛ لأجل هذا التداخل.



وفيما يلي أمثلة للغلبة بسبب العرف:

قال تعالى في تحريم نكاح الربيبة: ﴿ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ ﴾ [النساء: 23]، يقول الموزعي: «هذا الخطاب لا مفهوم له، وإنما ورد استعماله على غالب الموجود، فإنَّ الموجود من أحوال الناس أن الربائب لا يكن إلَّا في حجور أزواج أمهاتهن»[34].



ويبِّين النسفي وجه الغلبة بقوله في تفسيره: «لأنهن كن لا يتزوجن غالبًا ‌إذا ‌كان ‌لهن ‌أولاد ‌كبار، ويتزوجن مع الأولاد الصغار، ويستعن بالأزواج على تربية الأولاد، فخرج الكلام مخرج الغالب لا على الاشتراط»[35].



وقد يكون اللفظ خارجًا للغلبة المقصودة في حالة معينة؛ كخروج ضرب الرقاب في القتال، في قوله تعالى: ﴿ فَضَرْبَ الرِّقَابِ ﴾ [محمد: 4]؛ لأنه لا يضرب عند القتال إلا الأعناق فقط.



قال الزمخشري: «وضرب الرقاب عبارة عن القتل، لا أنَّ الواجب أن تضرب الرقاب خاصة دون غيرها من الأعضاء، وذلك أنهم كانوا يقولون: ضرب الأمير رقبة فلان، وضرب عنقه وعلاوته، وضرب ما فيه عيناه إذا قتله، وذلك أن قتل الإنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته، ‌فوقع ‌عبارة ‌عن ‌القتل»[36].



ومن عادات الناس الغالبة الاشتغال بالبيع والشراء، وربما شغل بعضهم عن الصلاة، فأنزل الله قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الجمعة: 9] فلا يدلَّ مفهوم قوله تعالى: ﴿ وَذَرُوا الْبَيْعَ ﴾ على أن غير البيع لا ينهى عن تركه، ومنه الشراء[37]، أو الاشتغال بفعل آخر غير البيع والشراء.



قال الرازي: «قوله: ﴿ وَذَرُوا الْبَيْعَ ﴾ لمَ ‌خص ‌البيع ‌من ‌جميع ‌الأفعال؟ نقول: لأنه من أهم ما يشتغل به المرء في النهار من أسباب المعاش، وفيه إشارة إلى ترك التجارة، ولأن البيع والشراء في الأسواق غالبًا، والغفلة على أهل السوق أغلب، فقوله: ﴿ وَذَرُوا الْبَيْعَ ﴾ تنبيه للغافلين...» [38].



ومن الغلبة التي تكون في مكان دون مكان، ما ورد في تعليق بعض الأحكام بالسفر؛ كتعليق التيمم عند عدم وجود الماء به، في قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ﴾ [النساء: 43]، فلا يدل على أن العادم للماء في الحضر بخلاف حكمه؛ بل إنَّما « ‌نصَّ ‌الله ‌سبحانه ‌على ‌السفر؛ لأنه الغالب من عدم الماء؛ فأما عدم الماء في الحضر فنادر» قاله ابن العربي [39].



ومن الغلبة التي تخرج في زمن دون زمن، قوله تعالى: ﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ﴾ [الأحقاف: 35]، وسبق قول الطاهر بن عاشور: «ومن النهار (من) فيه تبعيضية صفة لساعة، وهو وصف غير مراد منه التقييد؛ إذ لا فرق في الزمن القليل بين كونه من النهار أو من الليل وإنما هذا وصف خرج مخرج الغالب»[40].



الأمر الرابع: تنبيهات وفوائد عامة:

الأولى: لا بد من الغلبة أن تكون وقت نزول الخطاب، وهو شرط من شروط إعمال العادة، التي تمثل غلبة في الاستعمال.



الثانية: مقصود القرافي في قوله: «إنما قال العلماء إن مفهوم الصفة إذا خرجت ‌مخرج ‌الغالب...إلخ»[41]، جميع أنواع المفاهيم، وليس الحديث مقصورًا على مفهوم الصفة الذي هو مطلق التقييد بلفظ ليس بشرط ولا عدد ولا غاية ولا استثناء.



وذلك لأن مفهوم الصفة - وهو المراد هنا - يطلق على مطلق ما يحدد ويقلل من شيوع لفظ آخر، وأطلق الصفة على جميع أنواع المفاهيم المخالفة؛ لأنه رأسها كما يقول ابن السبكي في الإبهاج[42]، وجميع المفاهيم راجعة إليه[43].



الثالثة: وهي متعلقة بما سبق، فقد قال الطاهر ابن عاشور: «ثمَّ إن المفهوم الذي يجيء مجيء الغالب هو مفهوم القيود والتوابع؛ كالصفة والحال والغاية، دون ما لا يقع في الكلام إلا لقصد الاحتراز، كالاستثناء والشرط»[44].



قلت: وفي كلامه نظر، وقد خالف قاعدته في تفسيره؛ بل لم أقف لأحد من العلماء غير الطاهر بن عاشور يعتبر مفهوم الصفة في قوله: ﴿ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى ﴾ [البقرة: 178] على أنه خارج مخرج الغالب. فقال: «فإن قلت: كان الوجه ألا يقول: بالأنثى المشعر بأن الأنثى لا تقتل بالرجل مع إجماع المسلمين على ‌أن ‌المرأة ‌يقتص ‌منها ‌للرجل. قلت: الظاهر أن القيد خرج مخرج الغالب، فإن الجاري في العرف أن الأنثى لا تقتل إلا أنثى؛ إذ لا يتثاور الرجال والنساء، فذكر "بالأنثى" خارج على اعتبار الغالب كمخرج وصف السائمة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((في الغنم السائمة الزكاة))[45].



وذكر عدم اعتبار الشرط في قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ ﴾ [النساء: 102]، حيث دلَّ مفهوم الشرط في قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ ﴾، على عدم مشروعية صلاة الخوف بعد الرسول صلى الله عليه وسلم.



قال الطاهر بن عاشور: «ومحمل هذا ‌الشرط ‌عندهم ‌جارٍ على غالب أحوالهم يومئذٍ من ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم لغزواتهم وسراياهم إلا للضرورة... فليس المراد الاحتراز عن كون غيره فيهم، ولكن التنويه بكون النبي فيهم»[46]. والله أعلم، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[1] ينظر: بيان المختصر (2/ 431-440)، وأصول ابن مفلح (3/ 1056-1059)، وشرح الكوكب المنير (3/ 473-481).

[2] ينظر: بيان المختصر (2/ 440)، وشرح الكوكب المنير (3/ 480).

[3] ينظر: بيان المختصر (2/ 444)، وتحفة المسؤول (3/ 328).

[4] ينظر: الفصول في الأصول (1/ 291)، وأصول السرخسي (1/ 255-256).

[5] ينظر: التقريب والإرشاد (3/ 331-332)، وإحكام الفصول (2/ 520-521).

[6] ينظر: شرح اللمع (1/ 428)، وقواطع الأدلة (2/ 10-11).

[7] ينظر: الإحكام (7/ 929).

[8] ينظر: ميزان الأصول (405-407).

[9] ينظر: مقدمة ابن القصار (81-82)، وإحكام الفصول (2/ 520-521)، وشرح تنقيح الفصول (270).

[10] ينظر: شرح اللمع (1/ 428)، وقواطع الأدلة (2/ 10)، والمستصفى (3/ 414).

[11] ينظر: الواضح في أصول الفقه (3/ 266)، وشرح مختصر الروضة (2/ 725)، والمسودة (2/ 679).

[12] نقل جمع من العلماء الاتِّفاق على عدم اعتبار المفهوم إن خرج مخرج الغالب؛ ينظر: الإحكام (3/ 100)، شرح مختصر الروضة (2/ 775).

[13] تنظر حكاية الاتفاق في: بيان المختصر (2/ 447)، وشرح الكوكب المنير (3/ 489-496).

[14] ينظر: رأي الجويني، البرهان في أصول الفقه (1/ 178)، الإبهاج شرح المنهاج (1/ 625).

[15] ذكر المحليّ على شرحه لجمع الجوامع أنه قد رجع عن هذا من خلال توجيه كلام الجويني، والدليل على هذا أنه قد مشى في آية الربيبة على ما نقله الشافعي من أنَّ القيد فيها لموافقة الغالب لا مفهوم له. وكان الجويني يرى أنَّ المفهوم حجة وإن خرج مخرج الغالب؛ ينظر: حاشية العطار على شرح المحلي على جمع الجوامع (1/ 323، 324).

[16] ذكر القرافي استشكاله، وأجاب عنه؛ ينظر: الفروق (2/ 39)، وشرح التنقيح (272)، ونقله عنه ابن اللحام في قواعده (371).

[17] التعبير بلفظة (اضطر) في كلام الشارع لا يليق، قال ابن الشاط في حاشيته الفروق (2/ 78): «كيف يكون الشارع مضطرًّا إلى النطق بما لا يقصده؟ هذا محال فإنه إما أن يكون المراد بالشارع الله تعالى فاضطراره إلى أمر ما محال، وإما أن يكون المراد بالشارع الرسول صلى الله عليه وسلم فكذلك هو من حيث هو معصوم».

والمقصود أنه حصل اعتراض من بعض العلماء على هذا التفريق من جهة أنه وإن كان حاصلًا في كلام الآدميين فإنه لن يكون حاصلًا في كلام رب العالمين؛ لأنه تعالى عالم بالغالب وغير الغالب». وأجاب ابن السبكي عليه في الإبهاج في شرح المنهاج (1/ 625، 626) بقوله: بأنه حاصل في كلام الله، ولا يوجد فرق بينه وبين كلام البشر، وذلك أن كلام الله تعالى منزل بلسان العرب وأسلوبهم، ومن ضمن أساليب العرب هذا الأسلوب، وأن الكلام قد يذكر ويقيد بصفة غالبة ولا يريدون بتلك الصفة نفي الحكم عما عداه؛ بسبب ما ذكرت من تعليل في بداية الكلام عن التفريق. والله تعالى قد ذكر في كتابه ألفاظًا كثيرة، وهذه الألفاظ يستحيل وقوع معانيها من الله تعالى؛ كالترجي والتمني وألفاظ التشكيك، وكل ذلك منتفٍ في جانبه تعالى، وإنما تجيء في القرآن ليكون على أسلوب العرب وما جرى في كلامهم.

[18] الفروق (2/ 38- 40).

[19] أخرجه البخاري (1454) بنص: (وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة، شاة..) الحديث.

[20] أخرجه أحمد (4632)، وأبو داود (1568)، والترمذي (621)، وابن ماجه (1798).

[21] الفروق (2/ 40).

[22] التحرير والتنوير (30/ 57).

[23] أخرجه البخاري (112)، ومسلم (1355).

[24] التحرير والتنوير (11/ 182).

[25] تفسير ابن كثير (2/ 394).

[26] في التقرير والتحبير (1/ 115).

[27] تفسير ابن كثير (6/ 439).

[28] التحرير والتنوير (5/ 185).

[29] أحكام القرآن (4/ 153).

[30] أحكام القرآن (4/ 99) والجامع للقرطبي (16/ 52).

[31] زاد المسير (2/ 570).

[32] ينظر: أحكام القرآن (2/ 74)، والتفسير الكبير (10/ 56).

[33] في الإشارات الإلهية (145).

[34] تيسير البيان (1/ 593).

[35] التيسير في التفسير (4/ 493).

[36] الكشاف (4/ 316).

[37] اتفق العلماء على أن ذكر لفظ (البيع) وتقييده بالنهي لا يخرج الشراء عن هذا الحكم؛ لكونهما متلازمين، فلا يوجد أحدهما دون الآخر؛ بل قالوا: إن لفظ (البيع) يشمل الشراء، وقد ورد في الحديث: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا))؛ متفق عليه أخرجه البخاري (2079)، ومسلم (1532).

[38] التفسير الكبير (30/ 543).

[39] أحكام القرآن (1/ 563).

[40] التحرير والتنوير (11/ 182).

[41] البحر المحيط (5/ 155)، والكوكب المنير (3/ 499).

[42] الإبهاج (3/ 946).

[43] ينظر: البرهان (1/ 168).

[44] التحرير والتنوير (2/ 411).

[45] التحرير والتنوير (2/ 139).

[46] التحرير والتنوير (5/ 185).


 

تصميم وتطوير كنون