احصائية الزوار

الاحصائيات
لهذا اليوم : 36
بالامس : 24
لهذا الأسبوع : 394
لهذا الشهر : 1381
لهذه السنة : 15834

المتواجدين الآن

يتصفح الموقع حالياً  22
تفاصيل المتواجدين

إعمال القواعد الأصوليَّة في كلام الناس

المقال

إعمال القواعد الأصوليَّة في كلام الناس

125 | 11-08-2024

الحمد لله، والصلاة والسلام على نبيِّه ومصطفاه، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فإن القواعد الأصوليَّة منها ما يتعلَّق بالألفاظ، ومنها ما يتعلق بالمعاني كالقياس ونحوه.



وثمَّة سؤلان:

إن كان المتكلِّم يتحدَّث باللغة العربيَّة فهل يمكن أن يحاكم ويحاسب على دلالات ألفاظه، بحسب ما تقتضيه قواعد دلالات الألفاظ، فيعتبر عموم كلامه وخصوصه، ومطلقه ومقيِّده، ومنطوق كلامه ومفهومه، وألفاظ الأمر والنهي...إلخ، أو أن هذه القواعد لا تُطبَّق إلا على ألفاظ الشارع؟



فإن قيل: لا تُطبَّق إلا على كلام الشارع، فهل غيرها من قواعد الأصول تكون أولى بالرد، أو ثمَّة مأخذ آخر للنظر في قبولها؟



وقبل الإجابة عن سؤالي الورقة أمهِّد لهذه الإجابة بالوقفات الآتية:

الوقفة الأولى: موضوع أصول الفقه هو الأدلة؛ لذا لا خلاف في إعمال القواعد الأصوليَّة في كلام الشارع، وإنما الخلاف في إعمالها في كلام الناس، على ما سيأتي بإذن الله.



الوقفة الثانيَّة: ثمَّة قواعد مشتركة بين القواعد الأصوليَّة والقواعد الفقهية، ولا خلاف في تنزيل كلام الناس على القواعد الفقهية، والتعليل بها على أفعالهم، كقاعدة: بقاء ما كان على ما كان (أو الاستصحاب)، والعادة محكمة، (أو حجية العُرْف)، وإعمال الكلام أولى من إهماله، وقواعد المصلحة إلى غير ذلك، وذلك بالنظر إلى موضوع القواعد الفقهية، وهو أفعال المكلَّفين.



الوقفة الثالثة: لا ينبغي الخلاف في عدم جواز إعمال بعض القواعد الأصوليَّة في كلام النَّاس وأفعالهم؛ إذ هي مختصة بكونها دليلًا في نفسها؛ كالقواعد المتعلِّقة بحجيَّة الكتاب والسُّنَّة، وبعض القواعد المتعلِّقة بهما؛ كحجية القراءات الشاذة، أو القصص القرآني وشرع من قبلنا.



بخلاف ما كان دليلًا بغيره، وعقل معناه وسبب الاحتجاج به؛ كالإجماع السكوتي، والقياس وغيره، على ما سيأتي.



الوقفة الرابعة:ينبغي أن يحصر الخلاف في المسائل التي فرَّق فيها الأصوليون بين كلام الشارع وكلام الآدميين، وهي مسائل محصورة، وهنا أمران:

الأمر الأول: بالنظر إلى الجامع بين تلك المسائل التي فرَّق الأصوليُّون فيها بين الكلامينِ فإنه يعود إلى شيئين: الأول: لأمر يختص به الشارع، والثاني: بما ينزه عنه الشارع، ويرجع الأول إلى الثاني عند عدم اعتباره، وبيانه: عدم الذهول والنسيان، ونفي عدم القصد، والإدراك للوازم القول، مما يختص به الشارع، ويقع الخلل فيه من النَّاس لا محالة، والشارع ينزه عمَّا يقع النَّاس فيه من خلل، ومعظم المسائل التي وقع فيها التفريق كان مأخذ التفريق هو هذا الأمر.



قال الزركشي بيانًا لحجة تقي الدين السبكي في التفريق بين كلام الشارع وكلام الناس في مفهوم المخالفة: «وقال والد المصنف: وإنما هو حجة في خطاب الشارع؛ لعلمه بواطن الأمور وظواهرها، وليس بحجة في كلام المصنفين والنَّاس؛ لغلبة الذهول عليهم» [1].



ولأجل ذلك يُنزَّه الشارع من أن يكون تخصيص الشيء بالذكر فيه خاليًا عن فائدة، فيكون عبثًا [2].



ومثله قولهم في الإيماء والتنبيه: لو لم يكن اقتران الحكم بالوصف يدل على كون الوصف علَّة له، لكان الاقتران عبثًا، والشارع مُنزَّه عنه، وأما الإنسان فقد يصدر منه العبث واللعب.



الأمر الثاني: إنَّ الذهول والنسيان قد يقوى الظن بحصوله، وقد يضعف في مسائل دون أخرى؛ لذا قد يفرِّق بعض الأصوليين بين الكلامينِ في مسائل دون أخرى، كما قد يفرِّقون بين كلام أئمة المذاهب - لنسبة المذهب إليه - دون غيره، وقد يكون في الكتب دون غيرها، وهو راجع إلى هذا المأخذ.



قال ابن حامد: «...ومع هذا فقد ثبت وتقرَّر أن إمامنا وغيره من العلماء لا يأتون لكلمة من حيث الشرط إلا ولذلك فائدة، فلو كانت القضية بالشرط، وعدم الشرط سواء؛ كان ما جاء به الفقيه أيضًا لغوًا، وهذا بعيد أن ينسب إلى أحد من العلماء» [3]. وفيه تفريق بين الفقيه - ومنهم أئمة المذاهب - وغيره.



وقال ابن عابدين: «فإن العلماء جرت عادتهم في كتبهم على أنهم يذكرون القيود والشروط، ونحوها تنبيهًا على إخراج ما ليس فيه ذلك القيد ونحوه، وأن حكمه مخالف لحكم المنطوق، وهذا ممَّا شاع وذاع بينهم بلا نكير؛ ولذا لم يُرَ مَنْ صرَّحَ بخلافه» [4].



وقال في منظومته عقود رسم المفتي:
وكل قول في المتون أُثبتا
فذاك ترجيح له ضمنًا أتى

وقال في شرح البيت السابق: «...وحيث علم أن القول هو الذي تواردت عليه المتون، فهو المعتمد المعمول به؛ إذ صرَّحوا بأنه إذا تعارض ما في المتون والفتاوى، فالمعتمد ما في المتون، وكذا يُقدَّم ما في الشروح على ما في الفتاوى» [5].





الوقفة الخامسة: محل تطبيق القواعد المتعلِّقة بدلالات الألفاظ على كلام الناس - على القول به - مشروط بأن يكون المتحدث عارفًا باللغة ومدلولات الألفاظ، وليست ثمَّة عُرف يخالف ذلك، وإلا قُدِّم العُرْف عند بعضهم.



يقول الإسنوي في الفصل الذي خصَّصه لبيان كيفية الاستدلال بالألفاظ: "...وأما اللفظ الصادر من غير الشارع فقال الرافعي في الطرف السابع من تعليق الطلاق: إنه إذا تعارض المدلول اللغوي والعرفي فكلام الأصحاب يميل إلى اعتبار الوضع. والإمام والغزالي يريان اتِّباع العرف..." [6].



وبعد الوقفات السابقات أقف وقفات أخرى للإجابة عن سؤالي الورقة من خلال مناقشة أهم مسألة دار الخلاف والتفريق فيها بين كلام الشارع وكلام بني آدم، ومنها الدخول إلى أدلة القواعد والمسائل الأصوليَّة الأخرى، ومآخذهم.



وهناك سببٌ آخر لاختيار مسألة المفهوم، وهو ظهور سبب منع إعمال كلام النَّاس فيها أكثر من غيرها؛ بل عدَّ بعض الأصوليين الخلاف فيها أصلًا للخلاف في غيرها.



يقول الزركشي: «ينبغي أن يجيء خلاف في أن العموم حجة في كلام الشارع دون كلام الناس من الخلاف السابق في المفهوم» [7].



كما أننا نجد من الذين أنكروا دلالة المفهوم، واعتبروه من الدلالات الفاسدة على المعاني في كلام الشرع، يأخذون به في كلام الناس [8]؛ مما يدلُّ على مناسبة الانطلاق منها، فأقول:

الوقفة الأولى جعلت الخلاف في هذه المسألة بين شيخ وتلميذه، فالشيخ هو جمال الدين عبدالرحيم الإسنوي، وتلميذه بدر الدِّين محمد بن بهادر الزركشي، وكل واحد منهما إمام في هذا الشأن، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الشيخ الإسنوي عُرِف من خلال كتابه (التمهيد في تخريج الفروع على الأصول) بإعمال القواعد الأصوليَّة في كلام الآدميين، ولم يرتضِ تلميذه النجيب الزركشي طريقته، وبيَّن مأخذه، عند شرحه جمع الجوامع، حيث ذكر تاج الدين ابن السبكي في جمع الجوامع أنَّ أباه تقي الدِّين اعتبر المفهوم في كلام الشارع دون كلام الآدميين[9].



وتتابع شُرَّاح جمع الجوامع على الحديث عن هذا المذهب، ومنهم الزركشي في كتابه (تشنيف المسامع بجمع الجوامع)، ورجَّح اختصاص إعمال القواعد الأصوليَّة في كلام الشارع، وذكر دليله، ثمَّ عرَّض بصنيع شيخه الإسنوي المخالف لهذا الاختيار، فقال: «والراجح الاختصاص، ويشهد له مناط قولهم: إن مفهوم الصفة إنما كان حجة لما فيه من معنى العلَّة، والعلل لا نظر إليها في كلام الآدمي؛ إذ لا قياس فيها قطعًا، ويعلم من هذا تخريج المتأخرين مسائل الفروع على الأصول لا يخلو من نزاع» [10].



ووجه كون مفهوم الصفة فيه معنى العلَّة ظاهر، وأشار إليه في مواطن، وذكره الإسنوي كذلك فقال: «وأنَّ ظاهر التخصيص يستدعي فائدة، وتخصيص الحكم فائدة، وغيرها منتفٍ بالأصل، فتعيَّن»، ثمَّ قال: «وأنَّ الترتيب يُشعِر بالعلِّية، كما ستعرفه»؛ أي: في القياس، في مسلك الإيماء والتنبيه، ثمَّ قال: «والأصل ينفي علَّة أخرى، فينتفي بانتفائها» ا.هـ[11].



وضرب مثلًا بقوله عليه السلام: (مطل الغني ظلم) [12]، فالمطل صفة اقترنت بالحكم، فدلَّ هذا الاقتران على أنها علَّة لهذا الحكم، وهو كونه ظلمًا.



أمَّا الغنى فهو وصف يشعر بالعلِّية - وهو محطُّ النظر في دلالة المفهوم- لترتُّب الظلم على الغنى؛ أي: كون المماطل ظالمًا؛ لأنه غنيٌّ قادر على السداد.



فحصل ترتيب الظلم على الغنى (الوصف)، أو ترتيب الحكم على المخصوص بالذكر- الغنى- فأشعر بكون الوصف علَّة.



ومما يؤكد هذا ما نقله ابن السبكي في جمع الجوامع، وكذا الزركشي في شرحه التشنيف من قول لإمام الحرمين باشتراط المناسبة في الوصف، لحجية مفهوم الوصف.



قال الزركشي: «وفصَّل إمام الحرمين بين الوصف المناسب وغيره، فقال بمفهوم الأول دون الثاني..» [13].



والمقصود أنَّ الزركشي يرى أنَّ سبب الإعمال بمفهوم المخالفة وجود معنى العليَّة، لا مجرد اللفظ، وقال: «والعلل لا نظر إليها في كلام الآدمي»؛ وذلك لأن الآدمي قد لا يريد القياس عليها - هذا في حال لو نصَّ على العلَّة، فكيف لو كان مجرد اقتران للوصف بحكم - وبيانه: أنَّ من قال: أعتقت غانمًا لحسن خُلُقه، لا يقتضي عتق غيره من حسني الخلق من عبيده، وإن كان التنصيص على العلَّة في كلام الشارع؛ لأن التعدية للحكم المنصوص على عليَّته شرعًا ليس مجرد التنصيص على العلَّة؛ بل لأن الشارع تعبدنا بالقياس، بخلاف غيره؛ إذ لا أذن ولا أمر بذلك.



ولذا قال الزركشي: «إذ لا قياس فيها قطعًا»؛ أي: لا يوجد أمر بالقياس في كلام النَّاس.



ونقل الزركشي عن ابن تيميَّة قوله: «وأما القياس فإنما لم يكن حجة في كلام الناس؛ لأنه ليس من دلالات الألفاظ المعلومة من جهة اللغة؛ وإنما يصير دليلًا بنص الشارع بخلاف المفهوم» [14].



ونُوقِش: بأن ثمَّة مانعًا خارجيًّا من عدم التعدية في كلام بني آدم في المثال المذكور، وهو أنَّ الأملاك - كالعتق وغيره - التي علَّق الشارع الحكم حصولًا وزوالًا على اللفظ، فالعبرة باللفظ الصريح المطابق للمحل، وقد ضيَّق الشارع أحكام العباد حتى لا تحصل بكل لفظ.



وغاية الأمر أنَّ ما ورد به مانع من الإعمال لا يعمل، ويعمل في غيره، ولا يقال بتخلُّف القاعدة لوجود المانع.



ثمَّ إنَّ العليَّة الواردة في المفهوم، والتي اقتضت حجيَّته، واردة في غير قضايا الأملاك، وهي كما سبق قد يقوى إرادة التعميم والقياس من القائل، وقد يضعف.



يقول الزركشي: «فهي في كلام الشارع أقوى منها في كلام الراوي الفقيه، أقوى من غير الفقيه، مع صحة الاحتجاج بها في الكل، خلافًا لمن توهَّم أنه لا يحتجُّ بها إلا في كلام الراوي الفقيه، وهذا بحث توهَّمه بعضُ المتأخرين، وليس قولًا» [15].



والذي يظهر أنَّ الزركشي اعتبر التعليل هنا في كلام النَّاس؛ لأن الراوي ناقل لحكم الشارع، والشارع قد أمر بالقياس، كما سبق.



وقد أشار إلى هذا المذهب فقال: «...لأن المصنفين مخبرون عن حكم الله لا منشئون» [16]، ولا شك أن الراوي مخبر عن حكم الشارع، في مثل (سها النبي فسجد).



وعلى كُلٍّ فإن القول بأن العِلَل لا نظر إليها في كلام النَّاس محل نظر؛ إذ قد يقال فيه ما قيل في كلام الشارع؛ إذ لو لم يكن الوصف المقترن بالحكم علَّة له لكان عِيًّا في الكلام، وخبطًا في الكلام، كما قاله الأصوليون ومَثَّلوا له بكلام الناس [17].



الوقفة الثانية: دلالة المفهوم دلالة التزاميَّة، قال الإسنوي: «قيل: لو دلَّ لدلَّ مطابقة أو التزامًا؟ قلنا: دلَّ التزامًا، لما ثبت أنَّ الترتيب يدلُّ على العليَّة، وانتفاء العلَّة يستلزم انتفاء معلولها المساوي» [18].



ومن شروط الدلالة الالتزاميَّة انتقال الذهن من المعنى الملزوم إلى اللازم، ولمـَّا كان الذهن قد يتصوَّر المعنى الملزوم الذي وضع له اللفظ من غير أن يتصور نفس اللازم، أو نفي الحكم عن هذا اللازم، جاء التفريق بين كلام الشارع، وكلام الآدمي - والعلم عند الله - إذ إن عمدة الذين فرقوا بين كلام الشارع وكلام الآدمي، قالوا بأن كلام الآدمي يغلب عليه الذهول، بخلاف كلام الشارع فإنه يعلم بواطن الأمور وظواهرها.



والجواب: أن الذهول وإن كان واردًا إلا أنه قد يضعف، ويغلب في الإنسان مراعاة لوازم القول، ولاسيما إذا كان الوصف علَّة للحكم، إذ إن نفي العلَّة يستلزم نفي المعلول الذي ليس له إلَّا علَّة واحدة، كما قال الإسنوي [19].



وعلى القول بأنَّ دلالة الالتزام دلالة عقليَّة فهذا لا يعني انفكاكها عن الوضع؛ بل هي لازمه، ولازم الشيء جزء منه؛ لذا يرى بعض العلماء أنَّ الخلاف لفظي، ولا خلاف في المعنى، ولأجل ذلك كان تقسيم الدلالة اللفظية الوضعية إلى ثلاثة أقسام: مطابقة، وتَضَمُّن، والتزام، فدخلت الدلالة الالتزاميَّة فيها [20].



ويرى الزركشي أن للوضع والعقل مدخلًا في دلالة الالتزام، فيصح أن يقال: إنها عقليَّة باعتبار أن الانتقال من المسمَّى إلى اللازم، إنَّما حصل بالعقل، ووضعية باعتبار أنَّ الوضع سبب انتقال العقل إليها، فهي عقليَّة ووضعيَّة باعتبارين [21].



وبيَّن أنَّ دخولها في الدلالة اللفظية باعتبار أنَّ للفظ في هذه الدلالة مدخلًا، وهو شرط في استفادتها، وإنَّما الخلاف في أنَّ اللفظ موضوع للازم أم لا [22].



الوقفة الثالثة: وهو مترتب على ما سبق، فعلى القول بأنَّ دلالة المفهوم دلالة لفظية وضعيَّة فإنه لا معنى لعدم إعمال القواعد اللغوية فيها.



قال الزركشي: «وهل المفهوم مستفاد من دلالة العقل من جهة التخصيص بالذكر، أو مستفاد من اللفظ؟ قولان، وبالثاني قطع الإمام في البرهان..» [23].



وقال: «والثاني مفهوم المخالفة: وهو إثبات نقيض حكم المنطوق للمسكوت، ويسمى دليل الخطاب؛ لأنه دليله من جنس الخطاب، أو لأن الخطاب دالٌّ عليه» [24].



ثمَّ إنَّ العجب أنَّ الزركشي نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية أن التفريق بين كلام الشارع وكلام الناس في الدلالات «خلاف الإجماع؛ فإنَّ الناس إمَّا قائل بأنَّ المفهوم من جملة دلالات الألفاظ، أو ليس من جملتها، فالتفصيل إحداث قول ثالث. ثمَّ القائلون بأنه حجة إنَّما قالوا: هو حجة في الكلام مطلقًا، واستدلوا على كونه حجة في كلام الناس بأنه دلالة من جملة الدلالات كالعموم» [25]، ولم يتعقبه بشيء، وما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية مما تقوم الحجَّة بمثله [26].



بل قد نقل الزركشي عن الصيرفي - في مسألة عموم المجاز - أن الشافعي قال: «فكل خطاب في سنة رسول صلى الله عليه وسلم، أو في كلام الناس فهو على عمومه وظهوره إلَّا أن يأتي دلالة تدل على أنَّه خاص دون عام، وباطن دون ظاهر» [27].



الوقفة الرابعة: واقع كثير من كتب في الأصول أو الفروع تخريج كلام الناس على القواعد الأصوليَّة، وإن كان تأصيل بعضهم يخالف ذلك.



وقد وقع شيء من هذا عند الزركشي، ففي مسألة القضاء هل يجب بأمر جديد؟ يقول: «ومن فروعه: ما لو استأجر الولد سنة معيَّنة، ثمَّ لم يسلمه حتى مضت، انفسخ العقد، ولا يجب بدلها سنة أخرى؛ اعتبارًا بالعقد الأول، بل لا بد من إنشاء عقد جديد إن أرادها» [28].



أمَّا التمثيل للقواعد بكلام النَّاس فهو كثير، ومن ذلك قول الزركشي في التخصيص بالحال: «هو في المعنى كالصفة، وظاهر كلام البيضاوي أنه إذا تعقب جملًا عاد إلى الجميع بالاتفاق، نحو: أكرم ربيعة، وأعطِ مُضَر، نازلين بك. لكن صرَّح في المحصول بأنا نخصه بالأخيرة على قاعدة أبي حنيفة رحمه الله تعالى»، ثمَّ قال في المسألة التالية لها: «التخصيص بالظرفين، والجار والمجرور، نحو: أكرم زيدًا اليوم، أو في مكان كذا...إلخ» [29].



الوقفة الخامسة: تخريج أصول الأئمة من فروعهم، وهي محلُّ خلاف، نقل الزركشي الخلاف، ورأى أنها طريقة غير مرضيَّة، فقال: «واعلم أنَّ إمام الحرمين كثيرًا ما يستنتج من الفقه مذهب الشافعي في أصول الفقه، كقوله: إنَّ الشافعي يرى أنَّ القراءة الشاذة ليست بحجة أخذًا من عموم إيجابه التتابع في كفارة»؛ أي: كفارة الأيمان، ثمَّ قال: «وهذه طريقة غير مرضيَّة؛ فإنه يجوز أنْ يكون الفقيه قائلًا بالمدرك الأصولي، ولا يقول بملازمه في المدرك [الفروعي][30]، لمعارض آخر، اقتضى عنده القول بذلك»[31].



والجويني من حيث التأصيل لا يرتضي هذه الطريقة، وله نصوص في ذلك، منها قوله في ردِّه لفرع ناقضه به المخالف، فقال: «وهذا قول من يتلقى الحقائق في الأصول من خيالات الظنون المتعلقة بالفروع» [32].



والمقصود أنَّ تخريج أصول الأئمة من فروعهم واقع، وإن كان التأصيل يخالف ذلك، ومما يدلُّ على وقوع ذلك، ما نقله الزركشي في مسألة: ما إذا تكرر لفظ الأمر، نحو: صلِّ ثلاثًا، صلِّ ثلاثًا؛ حيث ذكر فيها وجهين: أحدهما أنه تأكيد، والثاني للاستئناف، ثمَّ قال: «قال الشيخ أبو إسحاق: ويمكن تخريج الوجهين في هذه المسألة من قول الشافعي في الفروع، فيما إذا قال: أنتِ طالق، أنتِ طالق، ولم يكن له في الثانية نيَّة، هل يقتضي التأكيد، أو الاستئناف؟ قولان...» [33].



ومثله: ما نقله عن القفال الشاشي في مسألة هل يجب العمل بالمفهوم قبل البحث عمَّا يوافقه، أو يخالفه من منطوق آخر، أو أن سبيله سبيل العموم؟، ثمَّ قال حكاية عن القفال: «واستدلَّ كل فريق من هم على صحة مذهبه بألفاظ سردها من كلام الشافعي»؛ ا هـ[34].



قلت: وإن كان هذا واقعًا في تخريج الأصول، ففي تخريج الفروع أولى؛ إذ الخطأ فيه أهون؛ فهي تمثل مسائل جزئية، بخلاف الأصول والقواعد الكليَّة.



ويدخل في تخريج الأصول من الفروع ما يستشهد به الأصوليون على قواعدهم، بأفعال النَّاس وأقوالهم، للدلالة على أنَّ مأخذها واحد.



ومن ذلك قول القرافي: «ومتى فهم من الشارع قصد العموم في تأسيس القواعد امتنع حمله على الخصوص؛ فإنَّ الإنسان لو اشتدَّ به الضعف، وأخذه الضجر، ونزلت أحوال شاقَّة به، فقال لغلمانه: لا يدخل عليَّ أحد، فحملوا هذا العموم على طائفة، وأذنوا لسائر النَّاس، لاستحقوا الأدب، ولعدوا خارجين عن نمط كلام العرب» [35].



فالعلماء ما زالوا يفرِّعون من كلام الناس وأفعالهم على القواعد الأصولية والعكس، يستخرجون قواعد الأصول من كلام الناس، ويجمع هاتان الصورتان ما ذكره الطوفي عند انتقاده أبا الخطاب في بناء الأصول على الفروع، فقال: «ولا يلزم المكلف حكم الناسخ قبل علمه به اختاره القاضي، وخرَّج أبو الخطاب لزومه على انعزال الوكيل قبل علمه بالعزل، وهو تخريج دوري... يلزم منه الدور؛ لأن هذه المسألة أصوليَّة ومسألة عزل الوكيل فروعيَّة، فهي فرع على مسألة النسخ؛ لأن العادة تخريج الفروع على الأصول» [36].



الوقفة السادسة: كثير من مباحث الأصول، ومنها دلالات الألفاظ هي ظواهر وليست نصوصًا في بيان المراد، فالأمر ظاهره يحمل على الوجوب، وقد يكون مصروفًا، وكذا عمومات الشرع...إلخ، وهذه الظواهر إنما تفيد الظن، والظن يجوز العمل به.



ولا شك أن كلام العربي يفيد ظنًّا بمراعاة القواعد الأصوليَّة اللغوية، التي هي أساليبه في مخاطباته، والتي نزل الخطاب الشرعي بلسانهم، وإعمال كلامه بحسب هذه القوانين أولى من إهماله، لو كان الاحتمال متساويًا، فكيف وهو الغالب في الظن، والله أعلم.



بل إن جملة من القواعد الأصوليَّة قد تُبنى على هذا الأصل - وهو العمل بغالب الظن- وبُنيت عليه مسائل فرعيَّة كثيرة.



أمَّا بناء القواعد الأصوليَّة الشرعيَّة فكثير، ومن ذلك حجيَّة الإجماع السكوتي؛ إذ إن سكوتهم في معرض الحاجة إلى البيان يغلب عليه ظن الموافقة، وغلبة الظن سبب الاحتجاج به، رغم وجود احتمال غرض آخر.



قال الإسنوي: «لاحتمال توقُّفه في المسألة، أو ذهابه إلى تصويب كل مجتهد» [37].



وبخصوص النظر إلى غلبة الظن في هذا الدليل - الإجماع السكوتي - نجد الإسنوي ينقل عن ابن التلمساني عن الشافعي أنَّه: «استدلَّ على إثبات القياس وخبر الآحاد بذلك؛ لكونه في وقائع»؛ أي: لتكرره حتى غلب كونه حجة، وكذا السكوت المتكرر يدلُّ عن رِضا وقناعة حيث قال قبلها: «ومن عبارته الرشيقة فيه: (لا ينسب إلى ساكت قول)، وهذا في السكوت الذي لم يتكرَّر فإن تكرر في وقائع كثيرة، كان ذلك إجماعًا وحجَّة عند الشافعي كما قاله ابن التلمساني» [38].



الوقفة السابعة: تُقسَّم القواعد الأصوليَّة بحسب مصادرها إلى ثلاثة أقسام: قواعد شرعيَّة، وقواعد لغوية، وقواعد عقليَّة.



يقول الغزالي: «الأدلة ثلاثة: عقليَّة تدلُّ لذاتها، وشرعيَّة صارت أدلة بوضع الشرع، ووضعية، وهي العبارات اللغوية» [39].



وتنقسم العقليَّة إلى ثلاثة أقسام:

عقليَّة محضة، ويمثَّل لها بقاعدة (ثبوت أحد الضدِّين يستلزم نفي الآخر).



وعقليَّة شرعيَّة، ويمثل لها بقاعدة (استصحاب ما دلَّ العقل والشرع على ثبوته ودوامه)، وقاعدة (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).



وعقليَّة لغوية، ويمثَّل لها بما سبق من دلالة الالتزام، وقاعدة (النهي عن الشيء يستلزم الأمر بضده).



والعقليَّة المحضة لا معنى لإنكار إعمالها في كلام الناس إن قبل العقل الإعمال؛ إذ إن دلالتها ذاتيَّة؛ أي: تدل بنفسها على المدلول من غير احتياج إلى واضع.



قال الزركشي: «والأمور العقليَّة لا تختلف باختلاف اللغات» [40].



وقال الغزالي: «الأدلة ثلاثة: عقليَّة تدلُّ لذاتها...» [41].



وقال ابن أمير الحاج عند حديثه عن إعمال المفهوم في كلام الناس نقلًا عن شمس الأئمة الكردي: «...فإما في متفاهم الناس وعرفهم، وفي المعاملات والعقليات يدل» [42].



وما قيل من غفلة وذهول الآدمي فقد أجيب عن بعضه في المبحث السابق، ويزاد هنا أنَّ الأصل العمل بمقتضيات العقول؛ إذ لا معنى للحثِّ على النظر والاعتبار والتفكُّر إلَّا ذاك.



ومع التسليم بأنَّ العقل يُحسن ويقبح دون أن يكون حاكمًا؛ لذا فإني أستبعد المعتزلة من هذا الخلاف؛ إذ إن أصولهم ومنها التحسين والتقبيح العقلي قد أثرت في اختياراتهم الأصوليَّة، فقد لا يتحقَّق معهم خلاف، فالعقل مؤثر عندهم بذاته في قواعد الشرع، وما كان كذلك فإنه مؤثر في كلام النَّاس، بمقتضى العقل؛ إذ المؤثر في الأقوى مؤثر في الأضعف.



الوقفة الثامنة: النظر في تعليلات الأصوليين لقواعدهم؛ فإنه يشعر بمقاصد العمل بالدليل، فالقياس القصد منه توسيع مجاري الحكم، وإعطاء المسكوت حكم المنصوص عليه إذا وجد جامع بينهم، ومثلها العمل بالظنون الناشئة عن أدلة وهذه المقاصد يمكن تنزيلها على كلام الناس وأفعالهم.



فالنسخ مقصده اعتبار القول الأحدث واطِّراح القول الأول، وهذا يتحقق في كلام الناس؛ بل حتى في إقرار المذاهب، فالقول الأخير للإمام يعتبر مذهبه، على خلاف في القول الأول وفي سقوطه.



وقد فرَّع الإسنوي فروعًا على مسألة الأفعال الصادرة من الشخص قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قوله: «إذا وقعت واقعة ولم يجد من يفتي فيها، فحكمها كما قال في الروضة في كتاب القضاء حكم ما قبل ورود الشرع، قال: والصحيح في ذلك أنه لا حكم فيها ولا تكليف أصلًا، ولا يُؤاخَذ صاحب الواقعة بما يفعله» [43].



وقد ذكر الزركشي هذا الفرع ونقله عن ابن الصلاح، ثمَّ قال: «والصحيح فيه: لا تكليف حكاه عنه في الروضة وأقرَّه، وخرج في شرح المهذب عليه النبات المجهول سميَّته... وأما النبات فلا يبعد تخريجه فيه، كحيوان لم يرد فيه نص بحلٍّ ولا بحرمه» [44].



ولا ريب أن مقصد العمل بهذه الأفعال قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم يتحقَّق في الواقعة التي لم يجد الشخص من يفتيه بها، فتكون القواعد الأصوليَّة كالقانون الذي يسير عليه في أخذ الأحكام.



خاتمة: يظهر لي من خلال ما سبق صحة صنيع الإسنوي، ومن أعمل القواعد الأصوليَّة في كلام الناس، بالشروط والضوابط التي ذكرت في الوقفات التمهيدية للمسألة.



وأوصي بإجراء القواعد الأصوليَّة على المتون والمصنفات، والقواعد الكلية، والأنظمة والقوانين؛ لمراعاتهم الألفاظ ودلالتها...إلخ.



كما أوصي بالاهتمام بحثًا وتدريسًا لكتاب التمهيد للإسنوي، ففيه يتدرب الفقيه والمفتي وطالب العلم على إعمال القواعد في استنباط الأحكام، ومن وصل إلى هدف الإسنوي وغايته من الكتاب؛ فإن إعمالها في نصوص الشارع يكون أسهل عليه، واستطاع تخريج النوازل على الأصول.



هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[1] تشنيف المسامع (1/ 366).

[2] ينظر: الإحكام للآمدي (3/ 100)، وشرح مختصر الروضة (2/ 723).

[3] تهذيب الأجوبة لابن حامد (192)، وينظر: شرح المنظومة المسماة بعقود رسم المفتي لابن عابدين (1/ 81).

[4] شرح المنظومة المسماة بعقود رسم المفتي لابن عابدين (1/ 84).

[5] شرح المنظومة المسماة بعقود رسم المفتي لابن عابدين (1/ 73-74).

[6] التمهيد (330)، ويُنظَر: الغيث الهامع (191)، والبحر المحيط (5/ 87).

[7] تشنيف المسامع (2/ 661).

[8] قال ابن عابدين: «في التحرير ...: أن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه في خطابات الشارع، فأما في متفاهم الناس وعرفهم وفي المعاملات والعقليات فيدل»،يُنظَر: مجموعة رسائل ابن عابدين (1/ 81) الرسالة الثانية/ شرح المنظومة المسماة بـ (عقود رسم المفني)، ورد المحتار (1/ 75).

[9] جمع الجوامع مع تشنيف المسامع (1/ 366)، وشرح المحلى وحاشية العطار (1/ 335-336).

[10] تشنيف المسامع (1/ 368).

[11] نهاية السول (2/ 206).

[12] أخرجه البخاري في كتاب في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس، باب مطل الغني ظلم، برقم (2400)، ومسلم في كتاب المساقاة، باب تحريم مطل الغني، وصحة الحوالة، واستحباب قبولها إذا أحيل على ملي، برقم (1564).

[13] البحر المحيط (4/ 32)، ويُنظَر: تشنيف المسامع (1/ 368).

[14] نقله الزركشي بالمعنى في تشنيف المسامع (1/ 367)، وقبله قال شيخ الإسلام: «ومما يُقضى منه العجب ظن بعض الناس أن دلالة المفهوم حجة في كلام الشارع دون كلام الناس بمنزلة القياس...والقياس ليس من دلالات الألفاظ المعلومة..."» إلى آخر ما قاله الزركشي، ويُنظَر: مجموع الفتاوى (31/ 136- 137).

[15] البحر المحيط (5/ 251).

[16] تشنيف المسامع (1/ 367).

[17] ينظر: شرح الكوكب المنير (4/ 126-128).

[18] نهاية السول (2/ 206) .

[19] ينظر :نهاية السول (2/ 206) .

[20] ينظر: التحبير (1/ 322).

[21] تشنيف المسامع (1/ 337-338).

[22] تشنيف المسامع (1/ 338).

[23] البحر المحيط (4/ 5).

[24] البحر المحيط (14/ 13) .

[25] تشنيف المسامع (1/ 367)، وينظر: الغيث الهامع (132).

[26] نقله الزركشي بالمعنى، ومن تمام قول ابن تيمية: «القائلون بأنه حجة في الكلام مطلقًا استدلوا على كونه حجة بكلام الناس، وبما يذكره أهل اللغة، وبأدلة عقليَّة تبيَّن لكل ذي نظر أن دلالة المفهوم من جنس دلالة العموم والإطلاق والتقييد، وهو من دلالات اللفظ، وهذا ظاهر في كلام العلماء»، ثمَّ قال: «والقياس ليس من دلالات الألفاظ المعلومة من جهة اللغة؛ وإنما يصير دليلًا بنصِّ الشارع، بخلاف المفهوم، فإنه دليل في اللغة، والشارع بيَّن الأحكام بلغة العرب»؛ يُنظَر: مجموع الفتاوى (31/ 136- 137)، وقد سبق الجواب عليه، وينبَّه إلى أن الاتفاق بين شيخ الإسلام ابن تيمية والزركشي في عدم إعمال القياس في كلام الناس؛ لعدم النَّص عليه من قبل المتكلِّم، والخلاف في المفهوم في كلام الناس هل يمنع لكون دلالته مشعرة بالقياس، والقياس مختص بكلام الشارع، أو يلحق كلام الناس بكلام الشارع في الإعمال لكون دليله اللغة.

[27] البحر المحيط (3/ 18).

[28] البحر المحيط (2/ 404).

[29] البحر المحيط (4/ 351) .

[30] في المطبوع (الفروع)، ولعل المثبت أصوب.

[31] سلاسل الذهب (89-90).

[32] البرهان (1/ 256)، ويُنظَر: (1/ 391-392)، (2/ 863).

[33] البحر المحيط (2/ 292- 293).

[34] البحر المحيط (4/ 17).

[35] نفائس الأصول (5/ 2222) .

[36] شرح مختصر الروضة (3/ 310).

[37] التمهيد (451)، وتشنيف المسامع (3/ 124).

[38] التمهيد (451-452).

[39] المستصفى (1/ 343).

[40] البحر المحيط (2/ 285).

[41] المستصفى (1/ 343) .

[42] شرح المنظومة المسماة بعقود رسم المفتي لابن عابدين (1/ 81).

[43] التمهيد (111).

[44] البحر المحيط (1/ 162).

 

تصميم وتطوير كنون