مكتبة الموقع
احصائية الزوار
لهذا اليوم : 51
بالامس : 24
لهذا الأسبوع : 409
لهذا الشهر : 1396
لهذه السنة : 15849
المتواجدين الآن
يتصفح الموقع حالياً 19
تفاصيل المتواجدين
دراسة عن كتاب التمهيد للإسنوي
المقال
دراسة عن كتاب التمهيد للإسنوي
92 |
11-08-2024
أ.د. عبدالرحمن بن علي الحطَّاب
أستاذ أصول الفقه بالجامعة الإسلامية
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد قلتُ في مقال سابق بعنوان (المدخل إلى علم تخريج الفروع على الأصول) [1]: إن كتاب التمهيد للإسنوي يُمثِّل النموذج الصحيح لعملية تخريج الفروع على الأصول، وقد دعا أرباب المذاهب في مقدمة كتابه أن يحذوا حذوه، فقال: "فلتستحضر أربابُ المذاهب قواعدَها الأصولية وتفاريعها، ثمَّ تسلك ما سلكتُه، فيحصل به - إن شاء الله تعالى - لجميعهم التمرُّن على تحرير الأدلة وتهذيبها، والتبيُّن لمأخذ تضعيفها وتصويبها"[2].
وفي هذا المقال دراسة عن هذا الكتاب، كتبتُها بعد أنْ عِشْتُ معه تحقيقًا لجزء من نصِّه[3]، وتدريسًا لشيء من فروعه، وهي دراسة مختصرة تلمست أمثلتها من القسم الذي حققته، طلبه مني عددٌ من الإخوة الأفاضل، فها هو في نُسْخته الأولى، عسى أن ينفع الله به، وتصل حاجته لمبتغيه.
أولًا: اسم الكتاب:
سمَّى المؤلفُ كتابَه (التمهيد)، فقال: «سميتُه بالتمهيد»[4]، واقتصر البعض على هذه التسمية، وزاد آخرون من المترجمين ونُسَّاخ الكتاب زياداتٍ بعد ذلك، وقبل التعرُّض لها يحسُن التنبيه إلى أن الكتاب في علم التخريج، ولم أجد أحدًا من المتأخِّرين خالفَ في ذلك.
وبيَّن المؤلفُ أنه أراد أن يكون كتابه هذا تمهيدًا للتخريج، فقال: «وقد مهدتُ بكتابي هذا طريق التخريج لكل ذي مذهب، وفتحت به باب التفريع لكل ذي مطلب... وهو تمهيد الوصول إلى مقام استخراج الفروع من قواعد الأصول والتعريج إلى ارتقاء مقام ذوي التخريج، حقَّق الله تعالى ذلك بمنِّه وكرمه؛ فلذلك سميْتُه بالتمهيد»[5].
وقال في كتابه الكوكب الدُّري أنه استخار الله في تأليف كتابين ممتزجين من الفنين - أصول الفقه، وأصول النحو - ومن الفقه، فقال: «أحدهما: في كيفية تخريج الفقه على المسائل الأصولية...»[6].
إذا تبين ما سبق، وبسببه حصل اختلافُ تنوُّعٍ في تسمية الكتاب بعد الاتفاق على كونه (التمهيد) والموقوف عليه التسميات التالية:
1- التمهيد، أو التمهيد في أصول الفقه الشافعي، أو التمهيد في الأصول الفقهية: وهذه الثلاث وردت في طُرَّة بعض النُّسَخ الخطيَّة للكتاب، وورد عند ابن حجر في الدُّرر الكامنة قوله: «وفرغ من التمهيد سنة 68ه»[7].
وغالب نقولات الشافعية في كتبهم يقتصرون على هذه التسمية؛ كقولهم: "قال الإسنوي في التمهيد، أو في التمهيد للإسنوي ونحو ذلك"[8].
ولابن جماعة حاشية سمَّاها (نكت التمهيد) [9]، ولابن أقبرس حاشية سماها (تجويد التمهيد)، تُحقَّق حاليًّا في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية[10].
2- تمهيد الوصول إلى مقام استخراج الفروع من قواعد الأصول:
وهذا العنوان وُجِد على غلاف أكثر من نسخة من نُسَخ الكتاب الخطيَّة، وهو مأخوذ من مقدمة الإسنوي حال بيانه لغرضه من تأليف الكتاب، ولم يقصد به المؤلف تسمية كتابه، يبينه المقصد الآخر المذكور بعده مباشرة؛ وهو قوله: «والتعريج إلى ارتقاء مقام ذوي التخريج»، ولم يذكر المقصد الآخر أحدٌ ممَّن تعرَّض لتسمية الكتاب، ثم إن الإسنوي قال بعدها: «فلذلك»؛ أي: لأجل تلك الأغراض «سميتُه بالتمهيد»[11].
3- التمهيد في تخريج الفروع على قواعد الأصول:
وهذه التسمية واردةٌ في بعض النُّسَخ الخطيَّة، وعلى طُرَّتها إجازةٌ من زين الدين العراقي بالكتاب، قلت ذلك لما سيأتي عن العراقي في تسمية الكتاب.
ومن التسميات المقاربة والواردة في بعض نُسَخ الكتاب: «التمهيد في تخريج الفروع على الأصول»، وهي التي اعتمد عليها الدكتور محمد حسن هيتو.
4- التمهيد في تنزيل الفروع على الأصول، أو التمهيد في تنزيل الفروع على القواعد الأصولية:.
هكذا ورد العنوان في بعض نُسَخ الكتاب، والعنوان الأوَّل ذكره السيوطي في بغية الوعاة[12]، ورضا كحَّالة في معجم المؤلِّفين[13].
5- التمهيد فيما ينبني من المسائل الفقهية على القواعد الأصولية:
هكذا ورد عن تلميذ المؤلف، زين الدين العراقي، عند تعداده لمؤلفات شيخه[14].
والذي يظهر لي وهو المنصوص عن المؤلف أن اسم الكتاب (التمهيد)، وما زاد عليه فهو وصف للكتاب من قبل طلاب الإسنوي ومن بعده، حيث إن النُّسَخ الخطيَّة السابقة بعضها بخطِّ طُلَّابه، وبعضها قُرئ على المصنِّف، وأجازهم عليها، وهي متنوِّعة في وصف الكتاب مُتَّفِقة في مسمَّاه، والله أعلم.
ثانيًا: نسبة الكتاب للمؤلف:
لا شك ولا ريب في نسبة كتاب (التمهيد) للإسنوي، ولم يُنازعه أحدٌ في هذا، ومما يدلُّ على نسبة الكتاب إليه أمور، منها:
أولًا: ما وُجِد في غلاف جميع نُسَخ المخطوط من نسبة الكتاب إليه.
ثانيًا: إحالة الإسنوي إلى بعض كتبه من خلال هذا الكتاب؛ كالإحالة إلى كتابيه: نهاية السول شرح منهاج الوصول[15]، وكتاب المهمات[16]، وكذا الإحالة إلى كتابه (التمهيد) من بعض كتبه؛ كالمهمات[17]، والكوكب الدُّري[18].
ثالثًا: ما ذكر في كتب التراجم، ومنها ما أُفرد فيها بالتأليف، كما فعل تلميذه زين الدين العراقي، وفيه يقول: وقرأت عليه من مُصنفاته: «ومنها التمهيد فيما ينبني من المسائل الفقهية على القواعد الأصولية»[19].
رابعًا: نقولات علماء الشافعية عن الكتاب، ونسبته إليه؛ كقولهم: قال الإسنوي في التمهيد، أو في التمهيد للإسنوي، ونحو ذلك، مع تطابق النقولات في الكتابين[20].
ثالثًا: أهمية الكتاب:
ترجع أهمية الكتاب إلى أمور:
أولًا: كونه يتعلق بعلمين جليلين؛ وهما: الفقه وأصوله، وأهميته من أهميتهما، وموضوعه موضوعهما: الأدلة وأفعال المكلفين.
ثانيًا: كونه يتعلق بفن التخريج، وأهمية هذا الكتاب من أهمية فنِّه وعلمه، واستجلاب تلك الأهمية مما يطول، ومما قاله الإسنوي في مقدمة الكتاب: "ثمَّ إني استخرت الله تعالى في تأليف كتاب يشتمل على غالب مسائله، وعلى المقصود منه، وهو كيفية استخراج الفروع منها...وحينئذٍ يعرف الناظر في ذلك مأخذ ما نصَّ عليه أصحابُنا وأصَّلوه، وأجملوه أو فصلوه، ويتنبَّه به على استخراج ما أهملوه، ويكون سلاحًا وعدة للمفتين، وعمدة للمدرسين"[21].
ثالثًا: قلَّة ما كتب حول موضوع الكتاب - التخريج - إن لم يكن هو الكتاب الوحيد في فنِّه، وقد ادَّعى المؤلف السَّبْق في تأليفه[22]، ومدح صنيعه بقوله: "وقد مهَّدْتُ بكتابي هذا طريق التخريج لكل ذي مذهب، وفتحت به باب التفريع لكل ذي مطلب، فلتستحضر أربابُ المذاهب قواعدها الأصولية وتفاريعها، ثمَّ تسلك ما سلكته، فيحصل به - إن شاء الله تعالى - لجميعهم التمرُّن على تحرير الأدلة وتهذيبها، والتبيُّن لمأخذ تضعيفها وتصويبها، ويتهيَّأ لأكثر المستعدِّين الملازمين للنظر فيه نهاية الأرب وغاية الطلب، وهو تمهيد الوصول إلى مقام استخراج الفروع من قواعد الأصول، والتعريج إلى ارتقاء مقام ذوي التخريج... " [23].
رابعًا: كونه من مؤلِّف خبير بأصول المذهب وفروعه، وممن تأهَّل، أو يرى نفسه أنه قد تأهَّل لهذا المنصب، وقد انتهت إليه رئاسة الشافعية في عصره [24].
خامسًا: استفادة العلماء من صنعيه، واستجابة لندائه بأن يحذوا حذوه، وممن تابَعَه ابنُ اللحام الحنبلي في كتابه القواعد، والتمرتاشي الحنفي في كتابه الوصول إل قواعد الأصول[25]، وهناك مَنْ حشَّى عليه[26].
رابعًا: منهج الإمام الإسنوي:
تحدَّث الإمام الإسنوي في مقدمة كتابه عن منهجه على سبيل الإجمال، وذكر أنه سيذكر المسألة الأصولية بجميع أطرافها منقَّحة مُهذَّبة ملخَّصة، ثم يتبعها بذكر شيء مما يتفرَّع عليها[27].
وأراد بالأصولية، أصول الفقه، ومهَّد لذلك بذكر اعتنائه بهذا العلم، وكونه راجع غالب مصنفاته المبسوطة والمتوسطة والمختصرة من زمن الإمام الشافعي إلى زمانه، وألَّف فيه مصنفًا قاصدًا بذلك كتابه نهاية السول، ثم قال: «ثم إنِّي استخرتُ الله تعالى في تأليف كتاب يشتمل على غالب مسائله وعلى المقصود منه، وهو كيفية استخراج الفروع منها»[28].
وذكر (205) أصلًا وقاعدة أصولية، مصدرًا له بقوله: مسألة، وهي مدرجة تحت أحد عشر بابًا، وسبعة كتب، وهو سائر فيه على ترتيب منهاج الوصول للبيضاوي، والله أعلم.
وأجمل رحمه الله منهجه في الفروع المذكورة في الكتاب، وقال: «والذي أذكره على أقسام: فمنه ما يكون جواب أصحابنا فيه موافقًا للقاعدة، ومنه ما يكون مخالفًا لها، ومنه ما لم أقف فيه على نقل بالكلية، فأذكر فيه ما تقتضيه قاعدتنا الأصولية ملاحظًا أيضًا للقاعدة المذهبية والنظائر الفروعية»[29].
وقد سار رحمه الله على منهجه الذي رَسمَه لنفسه، ولمزيد إيضاح وتفصيل أقول:
أولًا: بخصوص المسائل الأصولية المذكورة فيمكن إضافة ما يلي حول منهجه الذي سار عليه من خلال القسم المحقق:
1- لم يخرج رحمه الله عن أصول الإمام الشافعي، وكُتُب ونقولات أصحابه، إلَّا في القليل الذي لا بدَّ منه، وعدم الخروج هو الصحيح، وهو الواجب على المخرِّج؛ أي: ألَّا يتعدَّى قواعد وأصول إمامه.
قال ابن الصلاح في صفته: "أن يكون في مذهب إمامه مجتهدًا مقيَّدًا، فيستقل بتقرير مذهبه بالدليل غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصول إمامه وقواعده"[30].
ونقل الرافعي عن إمام الحرمين قوله: "أرى كل اختيار للمزني تخريجًا؛ فإنه لا يخالف أصول الشافعي، لا كأبي يوسف ومحمد فإنهما يخالفان أصول صاحبهما كثيرًا"[31].
ومعلوم أن المزني وأبا يوسف ومحمدًا كانوا في رتبة وطبقة المجتهدين المطلقين المنتسبين، وفي حال اختيارهم وانفرادهم اختلفوا في عد اختياراتهم وجوهًا.
2- أتى بالأصل -كما ذكر في منهجه - مُنقَّحًا مُهذَّبًا مُلخَّصًا، وهو ما جرى عليه في غالب مسائل الكتاب؛ إذ إن دراسة هذه الأصول إنَّما تكون في كتب أصول الفقه؛ لذا كان يحيل إلى كتابه الأصولي لئلا يستطرد في تقرير الأصل.
قال رحمه الله عند حديثه عن تعريف الفقه: "وما ذكرناه حدًّا وشرحًا هو أقرب إلى الصواب من غيره، وإن كان فيه أمور ذكرتها في الشرح"[32]، ويقصد بذلك شرح منهاج الوصول للبيضاوي، وشرحه المسمى بنهاية السول.
وقوله: "...وستأتي هذه المسألة مع فروع تتعلق بها في آخر الكتاب، قبيل الكتاب السابع "[33].
والناظر في كتابه يدرك تمامًا صغر حجم المسائل الأصولية بالنسبة للفروع المخرَّجة؛ إذ الأخيرة هي المقصودة بالتأليف.
3- رتَّب الإسنوي كتابه (التمهيد) حسب ترتيب الأبواب الأصولية، فبدأ بباب الحكم الشرعي وأقسامه، ثم أركانه، ثمَّ بالأدلة وما يتعلق بها، ثمَّ التعارض والترجيح، ثمَّ مباحث الاجتهاد والفتوى، وقد تناول أمهات المسائل والقواعد الأصولية.
4- بيَّن سبب الخلاف في بعض المسائل؛ كقوله في مسألة فرض العين والكفائي: "وسببه: أن الفرض يتعلق بالجميع، كما أوضحناه"[34].
وقوله في مسألة المباح هل هو حسن؟ فقال: "وذهب الجمهور إلى أن المباح حسن، وقال بعض المعتزلة: ليس بحسن ولا قبيح، والخلاف نشأ من تفسيرهم للأفعال"[35].
5- يشير إلى اصطلاح الفقهاء والأصوليين في ترجمة المسألة الأصولية.
قال في "مسألة: الأمر بالشيء هل يكون أمرًا بما لا يتم ذلك الشيء إلا به - وهو المسمَّى بالمقدمة أم لا يكون أمرًا به؟"، ثم قال: "ويعبِّر عنه الفقهاء بقولهم: ما لا يَتَأتَّى الواجب إلا به، فهو واجب"[36].
وقوله في "مسألة إذا أوجب الشارع شيئًا ثم نسخ وجوبه" قال: "وهذا الخلاف كثيرًا ما يعبِّر عنه الفقهاء بقولهم: إذا بطل الخصوص هل يبطل العموم؟"[37].
ثانيًا: بخصوص الفروع الفقهية المذكورة، فإنه يمكن بيان وإضافة الأمور التالية:
1- الفروع المذكورة هي من أقوال الأصحاب، وقد نصَّ على ذلك بقوله: «والذي أذكره على أقسام، فمنه ما يكون جواب أصحابنا...» [38]، ومن القليل ذكر شيء من منصوصات الإمام؛ لذا عندما أتى بفروع من منصوصات الإمام في حجية قول الصحابي، قال كالمعتذر عن ذكرها بدلًا من تخريجات الأصحاب: "وفروع المسألة كثيرة، منها المسائل التي ذكرتها عن الشافعي لأجل بيان مذهبه في أصل المسألة"[39].
وكونها من أقوال الأصحاب وتخريجاتهم هو حقيقة التخريج، وتسمى الفروع المخرَّجة بالأوجه.
قال النووي: "والأوجه لأصحابه المنتسبين إلى مذهبه، يخرجونها على أصوله، ويستنبطونها من قواعده"[40].
2- قسَّم تخريجات الأصحاب إلى ثلاثة أقسام: «فمنه: ما يكون جواب أصحابنا فيه موافقًا للقاعدة.
ومنه: ما يكون مخالفًا لها.
ومنه: ما لم أقف فيه على نقل بالكلية، فأذكر فيه ما تقتضيه قاعدتنا الأصولية ملاحظًا أيضًا للقاعدة المذهبية والنظائر الفروعية»[41].
فالقسم الأول: أن تكون الفروع موافقة للقاعدة، ويتعامل مع فروع مخرَّجة؛ أي: سبق تخريجها من قبل علماء الشافعية.
والقسم الثاني: لم يسبقه أحدٌ فيقوم هو بالتخريج على وفق القاعدة.
والقسم الثالث: ما أجاب به أصحابه الشافعيُّون بخلاف القاعدة الأصولية.
وأمثلة القسم الأول: وهي الأصل في الكتاب كثيرة، والكتاب شاهد عليها.
وأمثلة القسم الثاني كذلك كثيرة وظاهرة، وهو ينصُّ عليها؛ كقوله: "ومن الفروع المخالفة...إلخ "[42].
3- الفروع المخرَّجة غالبها مأخوذ من كتاب الشرح الكبير للرافعي، والروضة للنووي، وكذا كفاية النبيه لابن الرفعة.
أمَّا الأولان: فقد نصَّ الإسنوي على أنهما مادة فروع كتابه الكوكب الدُّري؛ حيث أطلق فقال: «... إذا أطلقت شيئًا من الأحكام الفقهية، فهو من الشرح الكبير للرافعي، أو الروضة للنووي...»[43].
والناظر في الكتابين - التمهيد والكوكب الدُّري - يجد التطابق في الفروع عند تتطابق الأصول.
يقول محقق كتاب الكوكب الدُّري محمد حسن عواد: "وجدير بالذكر أن كثيرًا من النصوص الواردة في الكوكب، ضمنها المؤلف في كتابه "التمهيد"، فقمت بالمقابلة بين النصوص في الكتابين، ولقد أفدتُ من "التمهيد" فائدة كثيرة، تجعله إلى حد ما نسخة خامسة للكتاب غير كاملة، كما يلاحظ أثناء التحقيق في الحواشي"[44].
ويجدر التنبيه هنا أن غالب تخريجها على الأصول هو من صنيع الإسنوي، حيث إنَّ الرافعي والنووي في الغالب يذكرون الأوجه في المذهب، ولا ينصُّون على القواعد الأصولية، وقد يذكرون لها تخريجًا على فرع، فيخرجها الإسنوي على أصول الإمام، ويذكر أحيانًا أن للمسألة مدركًا آخر.
نعم وقفت على بعض التخريجات قد سبق إليها من قبل العلائي في المجموع المذهب، ولم أرَهُ نبَّه على ذلك.
4- شملت الفروع المخرَّجة في الكتاب عمومًا معظم أبواب الفقه، وقد ذكر أنها مقصودة بذاتها، وغالبها كان في الأيمان والأوقاف والوصايا والعتق والطلاق.
ولعل كونها مقصودة بذاتها أن كثيرًا من تلك المسائل مما تمسُّ حاجة الناس إليها، ويكثُر فيها السؤال والتنازع.
5- لم يلتزم في الفروع المندرجة تحت القاعدة بترتيب معين، فأحيانًا يقدم المعاملات على العبادات أو العكس.
6- يُكثِر الإمام الإسنوي من الاعتراضات والتعقيبات على من سبقه، فيعترض على الإمام الجويني، ومن دونه في الطبقة، ويكثر التعقيبات على الشيخين الرافعي والنووي، ولا يكاد يُفوِّت لهما شيئًا، وله عناية خاصة بهما عبر مؤلفات خاصة؛ كالمهمات في الكلام على مواضع في شرح الرافعي الكبير والروضة، وكتابه جواهر البحرين في تناقض الحبرين[45].
7- كثيرًا ما يرجح بين الأوجه، ويُبيِّن الوجه الذي خرَّج على القاعدة، واندرج تحتها؛ كقوله: "فيه ثلاثة أوجه: أصحها الثالث"[46]، وقوله في مسألة الواجب المخيَّر: "إذا علمت ذلك فمن فروع القول الصحيح، وهو كون الواجب أحدها..."[47].
8- يبين سبب التخريج في الفروع أحيانًا؛ كقوله في مسألة الأداء والقضاء: "ما إذا أحرم بالحج ثم أفسده، فإن المأتي به بعد ذلك يكون قضاء، كما صرح به الأصحاب، وسببه: أنه بمجرد إحرامه يضيق عليه الإتيان به في ذلك العام اتفاقًا، ولهذا لا يجوز له إبقاؤه على إحرامه إلى عام آخر"[48]، وقوله في مسألة أخرى: "...وسببه أن وقت الإحرام بها قد فات..." [49].
9- يحيل إلى المسألة إلى مواضع أخرى أحيانًا؛ سواء إلى نفس الكتاب أو إلى كتاب آخر.
ومن ذلك قوله في الرد على النووي: "...رددنا عليه في كتاب المهمات فليطلب منه"[50].
وقوله: "...فجوابه يُعلم مما أذكره إن شاء الله تعالى في أول الاشتراك، فراجعه"[51].
وقوله: "...وقد تقدم في الكلام في فرض الكفاية كلام يتعلق بالمسألة، فراجعه"[52].
10- غالب تخريجاته في هذا الكتاب كانت على أقوال المكلفين، وقد سلَّط عليها القواعد الأصولية في استخراج الأحكام منها، وقد نصَّ أهل العلم أن المخرِّج يتعامل مع نصوص إمامه لا نصوص الشرع، ويستنبط منها كما يستنبط المجتهد المطلق من نصوص الشارع، وإذا جاز ذلك عند كثير منهم، فإنَّهم اختلفوا في جوازه في أقوال الناس، وسيأتي الحديث عنه في المؤاخذات على الكتاب.
11- وأخيرًا ومما يشدُّ الانتباه - في منهج عرضه للمسائل الأصولية الفرعية - سعة اطِّلاعه، وأمانته ودقته في النقل؛ حيث يُبيِّن ما نقله بالواسطة، وما نقله من مصدره مباشرة، والأخير هو الغالب، وقد أشار في كتابه المهمات إلى أن غالب مصادره قد كانت في ملكه، وقد جمع من مصنفات الأصحاب مالم يجتمع لغيره[53].
كما أن اللافت للنظر دقَّته في بيان موضع المسألة بذكر القائل وكتابه، أو يذكر ما سبق مع بيان موضع المسألة من ذلك الكتاب، وهذا ظاهر في صنيعه وكثير جدًّا.
كقوله: "...كذا قاله في باب مواقيت الحج قبيل الكلام على الميقات المكاني..."[54].
وقوله: "وقد تعرَّض له النووي في البيع من شرح المهذب في باب ما يفسد البيع من الشرط"[55].
خامسًا: من المؤاخذات على الكتاب:
هي مؤاخذات اجتهادية مهدرة أمام إيجابيات الكتاب، ومن تلك المؤاخذات:
1- يبدو لي أن الإسنوي نظر إلى كتاب العلائي المجموع المذهب وأفاد منه ولم يُشِرْ إلى ذلك، كما أنَّه ادَّعى عدم السبق إلى التأليف على هذا النمط[56]، فإن كان المقصود بإفراد المؤلف للقواعد الأصولية فلا بأس، وينازعه من قال بكتاب تخريج الفروع على الأصول للزنجاني.
وإن قصد بإلحاق أو استنباط ما لم ينص عليه الإمام إلى أصوله، فقد كان هذا من صنيع العلائي، إلَّا أن قواعد الفقه غلبت على قواعد الأصول عند العلائي، وقد أحسن ابن قاضي شهبة في الجمع بينهما في كتابه (مختصر من قواعد العلائي وكلام الإسنوي) [57] ملاحظًا هذه العلة بين الكتابين في تأليفه.
2- قد يبدو للقارئ أن الإسنوي لا يريد أن يُمرِّر مسألة ظفر بها على خطأ - في نظره - على الشيخين، وقد أوقعه ذلك أحيانًا في الاستعجال.
ومن أمثلة الاستعجال قوله في حق النووي في مسألة الفرق بين الفاسد والباطل: «إذا علمت ذلك فقد ذكر أصحابنا فروعًا مخالفة لهذه القاعدة فرَّقُوا فيها بين الفاسد والباطل، وقد حصرها النووي في تصنيفه المسمى بالدقائق في أربعة، وهي: الحج والعارية والكتابة والخلع ولم يذكر صورها.... وما ذكره النووي من حصر التفرقة في الأربعة ممنوع؛ بل يتصور أيضًا الفرق في كل عقد صحيح غير مضمون؛ كالإجارة والهبة وغيرهما» [58].
وعبارة النووي في دقائق المنهاج لا تدل على الحصر؛ حيث قال: «واعلم أن الفاسد والباطل من العقود عندنا سواء في الحكم إلا في مواضع منها: الحج والعارية والخلع والكتابة»[59].
ومن ذلك أيضًا قوله: "إذا علمت ذلك فقد وقع هنا للرافعي شيء عجيب [60]، تبعه عليه في الروضة، ونقله عنه أيضًا ابن الرفعة ساكتًا عليه، فقال - في باب الوقف -: ويصح الوقف على المتفقهة وهم المشتغلون بتحصيل الفقه مبتديهم ومنتهيهم، وعلى الفقهاء، ويدخل فيه من حصَّل منه شيئًا وإن قلَّ؛ هذا كلامه، وما ذكره في دخول محصِّل الشيء وإن قلَّ في مسمى الفقيه حتى يستحق من حصَّل المسألة الواحدة، مخالف لجميع ما سبق، ولا أعلم أحدًا ذكره، وكما أنه مخالف للمنقول في المذهب، فهو مخالف للقاعدة النحوية"[61].
وقد ورد في حاشية المخطوط: "قيل المراد بقوله: من حصَّل شيئًا؛ أي: صالحًا يهتدي به إلى الباقي، وإن قلَّ، فعلى هذا لا مخالفة في كلامه، لا نقلًا ولا نحوًا "، قلت: لأن النحو مبني على المعنى.
وقوله: "...حتى بالغ الرافعي وقال: إنه يكفي في علم السنة أن يكون عنده سنن أبي داود، والذي قاله مُتجه؛ فإن ظنَّ العدم يحصل بعدم وجوده فيه، والظن هو المكلف به في الفروع، وبالغ النووي في الردِّ عليه في تمثيله بسنن أبي داود، لتوهمه من كلامه خلاف مراده "[62].
ولم يتوهم المراد، وكان محقًّا فيما قاله وذلك بعد الرجوع للمقصود من مراد الرافعي، والذي بيَّنه الإسنوي في المهمات[63]، وما ذكره الإسنوي لا يدفع الاعتراض الوارد من النووي[64].
3- يستطرد الإسنوي أحيانًا في المسألة الفقهية، وأحيانًا يحيل إليها في كتبه الأخرى، ولا مزيد في كتابه الآخر على ما ذكره هنا[65].
4- أكثر الفروع إلَّا ما ندر هي مخرَّجة على كلام المكلفين، وقد خُرِّجت على أصول الإمام، وتخريج كلام الناس على القواعد الأصولية مشكل.
قال الزركشي في تشنيف المسامع: "...فقد حكى الكيا الطبري خلافًا في أن قواعد أصول الفقه المتعلقة بالألفاظ؛ كالعموم والخصوص وغير ذلك، هل يختص بكلام الشارع أو تجري في كلام الآدمي، وسيأتي في باب العموم حكاية القاضي حسين أيضًا، والراجح الاختصاص...." [66]، أي الاختصاص بكلام الشارع؛ وذلك لأن الناس في الغالب لا يرعون دلالات ألفاظهم، ويغفلون عن مدلولاتها، كما أن العرف، والقصد والنية، لها أثر في أحكام نطقهم.
5- وقع الإسنوي في الخلل من حيث النسبة، وأحيانًا قد لا أجد الفرع في المكان الذي أحال إليه[67].
6- إدراج الفروع المخالفة للقاعدة تحت القاعدة منبهًا على ذلك بقوله: ومن الفروع المخالفة[68]، أو يقول: فروع فيها نظر[69]، أو فروع مشكلة[70]، أو التخريج على ضابط مخالف للقاعدة[71]، ولا أعلم وجهًا لإدراجها ضمن كتاب التخريج؛ لأن إلحاق المخرج يكون على أصول الإمام، وهنا الفروع لا تلحق بها!
والله أعلم وأحكم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] نُشِر في موقع الألوكة بتاريخ 5/ 5/ 1440هـ.
[2]التمهيد (47).
[3] وقفتُ - بفضل الله - على نُسَخ خطية عديدة لكتاب التمهيد، ثمَّ شرعتُ مع بعض الإخوة في تحقيقه، كان نصيبي من بداية الكتاب إلى باب أركان الحكم، بواقع (19) قاعدة مع فروعها.
[4] التمهيد (47).
[5] التمهيد (46-47).
[6] الكوكب الدري (189).
[7] الدرر الكامنة (2/ 149-150).
[8] انظر: الغيث الهامع لولي الدين أبي زرعة العراقي (1/ 333)، والأشباه والنظائر؛ للسيوطي (1/ 207)، وحاشية العطار على شرح المحلي (2/ 42، 430)، والغرر البهية؛ لزكريا الأنصاري (5/ 216)، وحاشية الرملي الكبير على أسنى المطالب (1/ 542) و(3/ 288)، وتحفة المحتاج؛ لابن حجر الهيتمي (10/ 96)، ومغني المحتاج؛ للشربيني (4/ 481)، ونهاية المحتاج للرملي (6/ 182) و(8/ 182)، وإعانة الطالبين؛ للبكري (4/ 251)، وحاشية البجيرمي (4/ 366).
[9] انظر: شرح ابن جماعة على مقدمة التنبيه (8/ 168).
[10] تُحقَّق الآن في جامعة الإمام من الباحث سلمان الهمامي، وقد أفادني بحقيقة اسم الكتاب، وكذا الحاشية السابقة، وأفادني بأن ابن أقبرس ينقل كثيرًا من كتاب شيخه ابن جماعة، وذكر السخاوي في الضوء اللامع هذا المؤلف (5/ 293)، وقال عن ابن أقبرس: "ولكن تصانيفه ليست بذاك".
[11] التمهيد (46-47).
[12] انظر: بغية الوعاة (2/ 93).
[13] انظر: معجم المؤلفين (5/ 203).
[14] انظر: ترجمة الإمام العلامة جمال الدين بن عبدالرحيم الإسنوي؛ لزين الدين العراقي (41).
[15] انظر: التمهيد (47).
[16] انظر: التمهيد (54)، (91)، (93) وغيرها كثير.
[17] انظر: المهمات (1/ 230).
[18] انظر: الكوكب الدري (186، 189، 289، 320، 398).
[19] ترجمة الإمام العلامة جمال الدين بن عبدالرحيم الإسنوي؛ لزين الدين العراقي (41).
[20] انظر: حاشية العطار (2/ 430)، ونهاية المحتاج للرملي (6/ 182) و(8/ 182)، وحاشية البجيرمي (4/ 366).
[21] التمهيد (46).
[22] انظر: الكوكب الدري (188-189).
[23] التمهيد (46-47).
[24] انظر: الذيل على العبر في خبر من غبر (2/ 315)، وبغية الوعاة (2/ 92)، وسبق في الدراسة بيان شيء من النقولات في ذلك.
[25] انظر: الوصول إلى قواعد الأصول؛ للتمرتاشي (113).
[26] سبق الحديث عنها عند الحديث عن اسم الكتاب.
[27] التمهيد (46).
[28] التمهيد (46).
[29] التمهيد (46).
[30] أدب المفتي (94-59)، وأدب الفتوى؛ للنووي (26)، والمجموع (1/ 43).
[31]انظر: المهمات؛ للإسنوي (1/ 147-148)، والمجموع (1/ 72).
[32] التمهيد (51).
[33] التمهيد (86).
[34] التمهيد (77).
[35] التمهيد (61).
[36] التمهيد (83).
[37] التمهيد (101).
[38] التمهيد (46).
[39] التمهيد (502).
[40] المجموع (1/ 65).
[41] التمهيد (46).
[42] التمهيد (55،58).
[43] الكوكب الدري (190).
[44]انظر: مقدمة كتاب الكوكب الدري، تحقيق الدكتور محمد حسن عواد (ص176).
[45] انظر ما سبق في مؤلفاته.
[46] التمهيد (49).
[47] التمهيد (80).
[48] التمهيد (63).
[49] التمهيد (64).
[50] التمهيد (54).
[51] التمهيد (55-56).
[52] التمهيد (92).
[53] المهمات (1/ 131).
[54] التمهيد (60).
[55] التمهيد (61).
[56] انظر: الكوكب الدُّري (188).
[57] قال ابن خطيب الدهشة في مقدمة كتابه (1/ 63-64): "...أما بعد: فهذا مختصر من قواعد العلائي وكلام الإسنوي رحمهما الله تعالى...والترجمة بمسألة: علامة، للإمام الإسنوي ".
[58] انظر: التمهيد (60).
[59] دقائق المنهاج (77).
[60] انظر: العزيز شرح الوجيز(6/ 261).
[61] انظر: التمهيد (54).
[62] قال النووي في روضة الطالبين (11/ 95) عند حديثه عن صفات القاضي وشروطه: "قلت: لا يصح التمثيل بسنن أبي داود، فإنه لم يستوعب الصحيح من أحاديث الأحكام ولا معظمه، وذلك ظاهر؛ بل معرفته ضرورية لمن له أدنى اطِّلاع، وكم في صحيح البخاري ومسلم من حديث حكمي ليس في سنن أبي داود، وأما ما في كتابي الترمذي والنسائي وغيرهما من الكتب المعتمدة فكثرته وشهرته غنية عن التصريح بها، والله أعلم".
[63] بيَّن الإسنوي في المهمات (9/ 214) مقصوده بتوهم النووي، فقال: "وهذا الذي ذكره لا يرد؛ فإنه لم يدع استيعاب الأحكام؛ بل ادَّعى الاعتناء فيه بالجمع، ولا شك أن السنن المذكورة كذلك، ونظيره أن تقول: إن الرافعي قد اعتنى في شرحه بجميع الأحكام وإن فاته مسائل كثيرة مذكورة في المطولات والمختصرات".
قلت: والذي أوجب هذا الاعتراض القول بأن عبارة الغزالي في المستصفى هي بــ (بجميع) وذلك في قوله في المستصفى (2/ 348): " بل يكفي أن يكون له أصل مصحح وقعت العناية فيه بجميع أحاديث الأحكام كسنن أبي داود "، ونقل ذلك في بعض نسخ الرافعي، والذي قاله الغزالي ونقله الرافعي وغيره عنه هو قوله: (بجمع) من غير ياء بعد الميم.
ولكن هذا التعليل لا يدفع السؤال والاعتراض؛ لأنه إذا علم إهماله لكثير من الأحاديث فلا يكفي في نفي الحديث عدم وجوده فيه، لاحتمال وجوده في غيره، فلا تقع الكفاية بسنن أبي داود إذًا.
انظر: نقاش العلماء حول هذه المسألة في: البحر المحيط للزركشي (6/ 201)، وفتح المغيث للسخاوي (1/ 88)، وبذل المجهود للسخاوي (37-38).
[64] بل ظهرت من الإسنوي – عفا الله عنا وعنه – شدة اتجاه النووي – رحمه الله - ومن ذلك قوله: "والذي قاله ذهول عجيب، وغفلة فاحشة "، وقوله: "والذي ذكره النووي غلط فاحش"، وينظر: التمهيد (115).
[65] التمهيد (54).
[66] تشنيف المسامع (1/ 368).
[67] بينتها وأشرت إلى مواضعها أثناء التحقيق.
[68] التمهيد (55، 58، 392، 440، 471).
[69] التمهيد (116، 167).
[70] التمهيد (208، 241، 300، 374).
[71] التمهيد (386).
أستاذ أصول الفقه بالجامعة الإسلامية
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد قلتُ في مقال سابق بعنوان (المدخل إلى علم تخريج الفروع على الأصول) [1]: إن كتاب التمهيد للإسنوي يُمثِّل النموذج الصحيح لعملية تخريج الفروع على الأصول، وقد دعا أرباب المذاهب في مقدمة كتابه أن يحذوا حذوه، فقال: "فلتستحضر أربابُ المذاهب قواعدَها الأصولية وتفاريعها، ثمَّ تسلك ما سلكتُه، فيحصل به - إن شاء الله تعالى - لجميعهم التمرُّن على تحرير الأدلة وتهذيبها، والتبيُّن لمأخذ تضعيفها وتصويبها"[2].
وفي هذا المقال دراسة عن هذا الكتاب، كتبتُها بعد أنْ عِشْتُ معه تحقيقًا لجزء من نصِّه[3]، وتدريسًا لشيء من فروعه، وهي دراسة مختصرة تلمست أمثلتها من القسم الذي حققته، طلبه مني عددٌ من الإخوة الأفاضل، فها هو في نُسْخته الأولى، عسى أن ينفع الله به، وتصل حاجته لمبتغيه.
أولًا: اسم الكتاب:
سمَّى المؤلفُ كتابَه (التمهيد)، فقال: «سميتُه بالتمهيد»[4]، واقتصر البعض على هذه التسمية، وزاد آخرون من المترجمين ونُسَّاخ الكتاب زياداتٍ بعد ذلك، وقبل التعرُّض لها يحسُن التنبيه إلى أن الكتاب في علم التخريج، ولم أجد أحدًا من المتأخِّرين خالفَ في ذلك.
وبيَّن المؤلفُ أنه أراد أن يكون كتابه هذا تمهيدًا للتخريج، فقال: «وقد مهدتُ بكتابي هذا طريق التخريج لكل ذي مذهب، وفتحت به باب التفريع لكل ذي مطلب... وهو تمهيد الوصول إلى مقام استخراج الفروع من قواعد الأصول والتعريج إلى ارتقاء مقام ذوي التخريج، حقَّق الله تعالى ذلك بمنِّه وكرمه؛ فلذلك سميْتُه بالتمهيد»[5].
وقال في كتابه الكوكب الدُّري أنه استخار الله في تأليف كتابين ممتزجين من الفنين - أصول الفقه، وأصول النحو - ومن الفقه، فقال: «أحدهما: في كيفية تخريج الفقه على المسائل الأصولية...»[6].
إذا تبين ما سبق، وبسببه حصل اختلافُ تنوُّعٍ في تسمية الكتاب بعد الاتفاق على كونه (التمهيد) والموقوف عليه التسميات التالية:
1- التمهيد، أو التمهيد في أصول الفقه الشافعي، أو التمهيد في الأصول الفقهية: وهذه الثلاث وردت في طُرَّة بعض النُّسَخ الخطيَّة للكتاب، وورد عند ابن حجر في الدُّرر الكامنة قوله: «وفرغ من التمهيد سنة 68ه»[7].
وغالب نقولات الشافعية في كتبهم يقتصرون على هذه التسمية؛ كقولهم: "قال الإسنوي في التمهيد، أو في التمهيد للإسنوي ونحو ذلك"[8].
ولابن جماعة حاشية سمَّاها (نكت التمهيد) [9]، ولابن أقبرس حاشية سماها (تجويد التمهيد)، تُحقَّق حاليًّا في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية[10].
2- تمهيد الوصول إلى مقام استخراج الفروع من قواعد الأصول:
وهذا العنوان وُجِد على غلاف أكثر من نسخة من نُسَخ الكتاب الخطيَّة، وهو مأخوذ من مقدمة الإسنوي حال بيانه لغرضه من تأليف الكتاب، ولم يقصد به المؤلف تسمية كتابه، يبينه المقصد الآخر المذكور بعده مباشرة؛ وهو قوله: «والتعريج إلى ارتقاء مقام ذوي التخريج»، ولم يذكر المقصد الآخر أحدٌ ممَّن تعرَّض لتسمية الكتاب، ثم إن الإسنوي قال بعدها: «فلذلك»؛ أي: لأجل تلك الأغراض «سميتُه بالتمهيد»[11].
3- التمهيد في تخريج الفروع على قواعد الأصول:
وهذه التسمية واردةٌ في بعض النُّسَخ الخطيَّة، وعلى طُرَّتها إجازةٌ من زين الدين العراقي بالكتاب، قلت ذلك لما سيأتي عن العراقي في تسمية الكتاب.
ومن التسميات المقاربة والواردة في بعض نُسَخ الكتاب: «التمهيد في تخريج الفروع على الأصول»، وهي التي اعتمد عليها الدكتور محمد حسن هيتو.
4- التمهيد في تنزيل الفروع على الأصول، أو التمهيد في تنزيل الفروع على القواعد الأصولية:.
هكذا ورد العنوان في بعض نُسَخ الكتاب، والعنوان الأوَّل ذكره السيوطي في بغية الوعاة[12]، ورضا كحَّالة في معجم المؤلِّفين[13].
5- التمهيد فيما ينبني من المسائل الفقهية على القواعد الأصولية:
هكذا ورد عن تلميذ المؤلف، زين الدين العراقي، عند تعداده لمؤلفات شيخه[14].
والذي يظهر لي وهو المنصوص عن المؤلف أن اسم الكتاب (التمهيد)، وما زاد عليه فهو وصف للكتاب من قبل طلاب الإسنوي ومن بعده، حيث إن النُّسَخ الخطيَّة السابقة بعضها بخطِّ طُلَّابه، وبعضها قُرئ على المصنِّف، وأجازهم عليها، وهي متنوِّعة في وصف الكتاب مُتَّفِقة في مسمَّاه، والله أعلم.
ثانيًا: نسبة الكتاب للمؤلف:
لا شك ولا ريب في نسبة كتاب (التمهيد) للإسنوي، ولم يُنازعه أحدٌ في هذا، ومما يدلُّ على نسبة الكتاب إليه أمور، منها:
أولًا: ما وُجِد في غلاف جميع نُسَخ المخطوط من نسبة الكتاب إليه.
ثانيًا: إحالة الإسنوي إلى بعض كتبه من خلال هذا الكتاب؛ كالإحالة إلى كتابيه: نهاية السول شرح منهاج الوصول[15]، وكتاب المهمات[16]، وكذا الإحالة إلى كتابه (التمهيد) من بعض كتبه؛ كالمهمات[17]، والكوكب الدُّري[18].
ثالثًا: ما ذكر في كتب التراجم، ومنها ما أُفرد فيها بالتأليف، كما فعل تلميذه زين الدين العراقي، وفيه يقول: وقرأت عليه من مُصنفاته: «ومنها التمهيد فيما ينبني من المسائل الفقهية على القواعد الأصولية»[19].
رابعًا: نقولات علماء الشافعية عن الكتاب، ونسبته إليه؛ كقولهم: قال الإسنوي في التمهيد، أو في التمهيد للإسنوي، ونحو ذلك، مع تطابق النقولات في الكتابين[20].
ثالثًا: أهمية الكتاب:
ترجع أهمية الكتاب إلى أمور:
أولًا: كونه يتعلق بعلمين جليلين؛ وهما: الفقه وأصوله، وأهميته من أهميتهما، وموضوعه موضوعهما: الأدلة وأفعال المكلفين.
ثانيًا: كونه يتعلق بفن التخريج، وأهمية هذا الكتاب من أهمية فنِّه وعلمه، واستجلاب تلك الأهمية مما يطول، ومما قاله الإسنوي في مقدمة الكتاب: "ثمَّ إني استخرت الله تعالى في تأليف كتاب يشتمل على غالب مسائله، وعلى المقصود منه، وهو كيفية استخراج الفروع منها...وحينئذٍ يعرف الناظر في ذلك مأخذ ما نصَّ عليه أصحابُنا وأصَّلوه، وأجملوه أو فصلوه، ويتنبَّه به على استخراج ما أهملوه، ويكون سلاحًا وعدة للمفتين، وعمدة للمدرسين"[21].
ثالثًا: قلَّة ما كتب حول موضوع الكتاب - التخريج - إن لم يكن هو الكتاب الوحيد في فنِّه، وقد ادَّعى المؤلف السَّبْق في تأليفه[22]، ومدح صنيعه بقوله: "وقد مهَّدْتُ بكتابي هذا طريق التخريج لكل ذي مذهب، وفتحت به باب التفريع لكل ذي مطلب، فلتستحضر أربابُ المذاهب قواعدها الأصولية وتفاريعها، ثمَّ تسلك ما سلكته، فيحصل به - إن شاء الله تعالى - لجميعهم التمرُّن على تحرير الأدلة وتهذيبها، والتبيُّن لمأخذ تضعيفها وتصويبها، ويتهيَّأ لأكثر المستعدِّين الملازمين للنظر فيه نهاية الأرب وغاية الطلب، وهو تمهيد الوصول إلى مقام استخراج الفروع من قواعد الأصول، والتعريج إلى ارتقاء مقام ذوي التخريج... " [23].
رابعًا: كونه من مؤلِّف خبير بأصول المذهب وفروعه، وممن تأهَّل، أو يرى نفسه أنه قد تأهَّل لهذا المنصب، وقد انتهت إليه رئاسة الشافعية في عصره [24].
خامسًا: استفادة العلماء من صنعيه، واستجابة لندائه بأن يحذوا حذوه، وممن تابَعَه ابنُ اللحام الحنبلي في كتابه القواعد، والتمرتاشي الحنفي في كتابه الوصول إل قواعد الأصول[25]، وهناك مَنْ حشَّى عليه[26].
رابعًا: منهج الإمام الإسنوي:
تحدَّث الإمام الإسنوي في مقدمة كتابه عن منهجه على سبيل الإجمال، وذكر أنه سيذكر المسألة الأصولية بجميع أطرافها منقَّحة مُهذَّبة ملخَّصة، ثم يتبعها بذكر شيء مما يتفرَّع عليها[27].
وأراد بالأصولية، أصول الفقه، ومهَّد لذلك بذكر اعتنائه بهذا العلم، وكونه راجع غالب مصنفاته المبسوطة والمتوسطة والمختصرة من زمن الإمام الشافعي إلى زمانه، وألَّف فيه مصنفًا قاصدًا بذلك كتابه نهاية السول، ثم قال: «ثم إنِّي استخرتُ الله تعالى في تأليف كتاب يشتمل على غالب مسائله وعلى المقصود منه، وهو كيفية استخراج الفروع منها»[28].
وذكر (205) أصلًا وقاعدة أصولية، مصدرًا له بقوله: مسألة، وهي مدرجة تحت أحد عشر بابًا، وسبعة كتب، وهو سائر فيه على ترتيب منهاج الوصول للبيضاوي، والله أعلم.
وأجمل رحمه الله منهجه في الفروع المذكورة في الكتاب، وقال: «والذي أذكره على أقسام: فمنه ما يكون جواب أصحابنا فيه موافقًا للقاعدة، ومنه ما يكون مخالفًا لها، ومنه ما لم أقف فيه على نقل بالكلية، فأذكر فيه ما تقتضيه قاعدتنا الأصولية ملاحظًا أيضًا للقاعدة المذهبية والنظائر الفروعية»[29].
وقد سار رحمه الله على منهجه الذي رَسمَه لنفسه، ولمزيد إيضاح وتفصيل أقول:
أولًا: بخصوص المسائل الأصولية المذكورة فيمكن إضافة ما يلي حول منهجه الذي سار عليه من خلال القسم المحقق:
1- لم يخرج رحمه الله عن أصول الإمام الشافعي، وكُتُب ونقولات أصحابه، إلَّا في القليل الذي لا بدَّ منه، وعدم الخروج هو الصحيح، وهو الواجب على المخرِّج؛ أي: ألَّا يتعدَّى قواعد وأصول إمامه.
قال ابن الصلاح في صفته: "أن يكون في مذهب إمامه مجتهدًا مقيَّدًا، فيستقل بتقرير مذهبه بالدليل غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصول إمامه وقواعده"[30].
ونقل الرافعي عن إمام الحرمين قوله: "أرى كل اختيار للمزني تخريجًا؛ فإنه لا يخالف أصول الشافعي، لا كأبي يوسف ومحمد فإنهما يخالفان أصول صاحبهما كثيرًا"[31].
ومعلوم أن المزني وأبا يوسف ومحمدًا كانوا في رتبة وطبقة المجتهدين المطلقين المنتسبين، وفي حال اختيارهم وانفرادهم اختلفوا في عد اختياراتهم وجوهًا.
2- أتى بالأصل -كما ذكر في منهجه - مُنقَّحًا مُهذَّبًا مُلخَّصًا، وهو ما جرى عليه في غالب مسائل الكتاب؛ إذ إن دراسة هذه الأصول إنَّما تكون في كتب أصول الفقه؛ لذا كان يحيل إلى كتابه الأصولي لئلا يستطرد في تقرير الأصل.
قال رحمه الله عند حديثه عن تعريف الفقه: "وما ذكرناه حدًّا وشرحًا هو أقرب إلى الصواب من غيره، وإن كان فيه أمور ذكرتها في الشرح"[32]، ويقصد بذلك شرح منهاج الوصول للبيضاوي، وشرحه المسمى بنهاية السول.
وقوله: "...وستأتي هذه المسألة مع فروع تتعلق بها في آخر الكتاب، قبيل الكتاب السابع "[33].
والناظر في كتابه يدرك تمامًا صغر حجم المسائل الأصولية بالنسبة للفروع المخرَّجة؛ إذ الأخيرة هي المقصودة بالتأليف.
3- رتَّب الإسنوي كتابه (التمهيد) حسب ترتيب الأبواب الأصولية، فبدأ بباب الحكم الشرعي وأقسامه، ثم أركانه، ثمَّ بالأدلة وما يتعلق بها، ثمَّ التعارض والترجيح، ثمَّ مباحث الاجتهاد والفتوى، وقد تناول أمهات المسائل والقواعد الأصولية.
4- بيَّن سبب الخلاف في بعض المسائل؛ كقوله في مسألة فرض العين والكفائي: "وسببه: أن الفرض يتعلق بالجميع، كما أوضحناه"[34].
وقوله في مسألة المباح هل هو حسن؟ فقال: "وذهب الجمهور إلى أن المباح حسن، وقال بعض المعتزلة: ليس بحسن ولا قبيح، والخلاف نشأ من تفسيرهم للأفعال"[35].
5- يشير إلى اصطلاح الفقهاء والأصوليين في ترجمة المسألة الأصولية.
قال في "مسألة: الأمر بالشيء هل يكون أمرًا بما لا يتم ذلك الشيء إلا به - وهو المسمَّى بالمقدمة أم لا يكون أمرًا به؟"، ثم قال: "ويعبِّر عنه الفقهاء بقولهم: ما لا يَتَأتَّى الواجب إلا به، فهو واجب"[36].
وقوله في "مسألة إذا أوجب الشارع شيئًا ثم نسخ وجوبه" قال: "وهذا الخلاف كثيرًا ما يعبِّر عنه الفقهاء بقولهم: إذا بطل الخصوص هل يبطل العموم؟"[37].
ثانيًا: بخصوص الفروع الفقهية المذكورة، فإنه يمكن بيان وإضافة الأمور التالية:
1- الفروع المذكورة هي من أقوال الأصحاب، وقد نصَّ على ذلك بقوله: «والذي أذكره على أقسام، فمنه ما يكون جواب أصحابنا...» [38]، ومن القليل ذكر شيء من منصوصات الإمام؛ لذا عندما أتى بفروع من منصوصات الإمام في حجية قول الصحابي، قال كالمعتذر عن ذكرها بدلًا من تخريجات الأصحاب: "وفروع المسألة كثيرة، منها المسائل التي ذكرتها عن الشافعي لأجل بيان مذهبه في أصل المسألة"[39].
وكونها من أقوال الأصحاب وتخريجاتهم هو حقيقة التخريج، وتسمى الفروع المخرَّجة بالأوجه.
قال النووي: "والأوجه لأصحابه المنتسبين إلى مذهبه، يخرجونها على أصوله، ويستنبطونها من قواعده"[40].
2- قسَّم تخريجات الأصحاب إلى ثلاثة أقسام: «فمنه: ما يكون جواب أصحابنا فيه موافقًا للقاعدة.
ومنه: ما يكون مخالفًا لها.
ومنه: ما لم أقف فيه على نقل بالكلية، فأذكر فيه ما تقتضيه قاعدتنا الأصولية ملاحظًا أيضًا للقاعدة المذهبية والنظائر الفروعية»[41].
فالقسم الأول: أن تكون الفروع موافقة للقاعدة، ويتعامل مع فروع مخرَّجة؛ أي: سبق تخريجها من قبل علماء الشافعية.
والقسم الثاني: لم يسبقه أحدٌ فيقوم هو بالتخريج على وفق القاعدة.
والقسم الثالث: ما أجاب به أصحابه الشافعيُّون بخلاف القاعدة الأصولية.
وأمثلة القسم الأول: وهي الأصل في الكتاب كثيرة، والكتاب شاهد عليها.
وأمثلة القسم الثاني كذلك كثيرة وظاهرة، وهو ينصُّ عليها؛ كقوله: "ومن الفروع المخالفة...إلخ "[42].
3- الفروع المخرَّجة غالبها مأخوذ من كتاب الشرح الكبير للرافعي، والروضة للنووي، وكذا كفاية النبيه لابن الرفعة.
أمَّا الأولان: فقد نصَّ الإسنوي على أنهما مادة فروع كتابه الكوكب الدُّري؛ حيث أطلق فقال: «... إذا أطلقت شيئًا من الأحكام الفقهية، فهو من الشرح الكبير للرافعي، أو الروضة للنووي...»[43].
والناظر في الكتابين - التمهيد والكوكب الدُّري - يجد التطابق في الفروع عند تتطابق الأصول.
يقول محقق كتاب الكوكب الدُّري محمد حسن عواد: "وجدير بالذكر أن كثيرًا من النصوص الواردة في الكوكب، ضمنها المؤلف في كتابه "التمهيد"، فقمت بالمقابلة بين النصوص في الكتابين، ولقد أفدتُ من "التمهيد" فائدة كثيرة، تجعله إلى حد ما نسخة خامسة للكتاب غير كاملة، كما يلاحظ أثناء التحقيق في الحواشي"[44].
ويجدر التنبيه هنا أن غالب تخريجها على الأصول هو من صنيع الإسنوي، حيث إنَّ الرافعي والنووي في الغالب يذكرون الأوجه في المذهب، ولا ينصُّون على القواعد الأصولية، وقد يذكرون لها تخريجًا على فرع، فيخرجها الإسنوي على أصول الإمام، ويذكر أحيانًا أن للمسألة مدركًا آخر.
نعم وقفت على بعض التخريجات قد سبق إليها من قبل العلائي في المجموع المذهب، ولم أرَهُ نبَّه على ذلك.
4- شملت الفروع المخرَّجة في الكتاب عمومًا معظم أبواب الفقه، وقد ذكر أنها مقصودة بذاتها، وغالبها كان في الأيمان والأوقاف والوصايا والعتق والطلاق.
ولعل كونها مقصودة بذاتها أن كثيرًا من تلك المسائل مما تمسُّ حاجة الناس إليها، ويكثُر فيها السؤال والتنازع.
5- لم يلتزم في الفروع المندرجة تحت القاعدة بترتيب معين، فأحيانًا يقدم المعاملات على العبادات أو العكس.
6- يُكثِر الإمام الإسنوي من الاعتراضات والتعقيبات على من سبقه، فيعترض على الإمام الجويني، ومن دونه في الطبقة، ويكثر التعقيبات على الشيخين الرافعي والنووي، ولا يكاد يُفوِّت لهما شيئًا، وله عناية خاصة بهما عبر مؤلفات خاصة؛ كالمهمات في الكلام على مواضع في شرح الرافعي الكبير والروضة، وكتابه جواهر البحرين في تناقض الحبرين[45].
7- كثيرًا ما يرجح بين الأوجه، ويُبيِّن الوجه الذي خرَّج على القاعدة، واندرج تحتها؛ كقوله: "فيه ثلاثة أوجه: أصحها الثالث"[46]، وقوله في مسألة الواجب المخيَّر: "إذا علمت ذلك فمن فروع القول الصحيح، وهو كون الواجب أحدها..."[47].
8- يبين سبب التخريج في الفروع أحيانًا؛ كقوله في مسألة الأداء والقضاء: "ما إذا أحرم بالحج ثم أفسده، فإن المأتي به بعد ذلك يكون قضاء، كما صرح به الأصحاب، وسببه: أنه بمجرد إحرامه يضيق عليه الإتيان به في ذلك العام اتفاقًا، ولهذا لا يجوز له إبقاؤه على إحرامه إلى عام آخر"[48]، وقوله في مسألة أخرى: "...وسببه أن وقت الإحرام بها قد فات..." [49].
9- يحيل إلى المسألة إلى مواضع أخرى أحيانًا؛ سواء إلى نفس الكتاب أو إلى كتاب آخر.
ومن ذلك قوله في الرد على النووي: "...رددنا عليه في كتاب المهمات فليطلب منه"[50].
وقوله: "...فجوابه يُعلم مما أذكره إن شاء الله تعالى في أول الاشتراك، فراجعه"[51].
وقوله: "...وقد تقدم في الكلام في فرض الكفاية كلام يتعلق بالمسألة، فراجعه"[52].
10- غالب تخريجاته في هذا الكتاب كانت على أقوال المكلفين، وقد سلَّط عليها القواعد الأصولية في استخراج الأحكام منها، وقد نصَّ أهل العلم أن المخرِّج يتعامل مع نصوص إمامه لا نصوص الشرع، ويستنبط منها كما يستنبط المجتهد المطلق من نصوص الشارع، وإذا جاز ذلك عند كثير منهم، فإنَّهم اختلفوا في جوازه في أقوال الناس، وسيأتي الحديث عنه في المؤاخذات على الكتاب.
11- وأخيرًا ومما يشدُّ الانتباه - في منهج عرضه للمسائل الأصولية الفرعية - سعة اطِّلاعه، وأمانته ودقته في النقل؛ حيث يُبيِّن ما نقله بالواسطة، وما نقله من مصدره مباشرة، والأخير هو الغالب، وقد أشار في كتابه المهمات إلى أن غالب مصادره قد كانت في ملكه، وقد جمع من مصنفات الأصحاب مالم يجتمع لغيره[53].
كما أن اللافت للنظر دقَّته في بيان موضع المسألة بذكر القائل وكتابه، أو يذكر ما سبق مع بيان موضع المسألة من ذلك الكتاب، وهذا ظاهر في صنيعه وكثير جدًّا.
كقوله: "...كذا قاله في باب مواقيت الحج قبيل الكلام على الميقات المكاني..."[54].
وقوله: "وقد تعرَّض له النووي في البيع من شرح المهذب في باب ما يفسد البيع من الشرط"[55].
خامسًا: من المؤاخذات على الكتاب:
هي مؤاخذات اجتهادية مهدرة أمام إيجابيات الكتاب، ومن تلك المؤاخذات:
1- يبدو لي أن الإسنوي نظر إلى كتاب العلائي المجموع المذهب وأفاد منه ولم يُشِرْ إلى ذلك، كما أنَّه ادَّعى عدم السبق إلى التأليف على هذا النمط[56]، فإن كان المقصود بإفراد المؤلف للقواعد الأصولية فلا بأس، وينازعه من قال بكتاب تخريج الفروع على الأصول للزنجاني.
وإن قصد بإلحاق أو استنباط ما لم ينص عليه الإمام إلى أصوله، فقد كان هذا من صنيع العلائي، إلَّا أن قواعد الفقه غلبت على قواعد الأصول عند العلائي، وقد أحسن ابن قاضي شهبة في الجمع بينهما في كتابه (مختصر من قواعد العلائي وكلام الإسنوي) [57] ملاحظًا هذه العلة بين الكتابين في تأليفه.
2- قد يبدو للقارئ أن الإسنوي لا يريد أن يُمرِّر مسألة ظفر بها على خطأ - في نظره - على الشيخين، وقد أوقعه ذلك أحيانًا في الاستعجال.
ومن أمثلة الاستعجال قوله في حق النووي في مسألة الفرق بين الفاسد والباطل: «إذا علمت ذلك فقد ذكر أصحابنا فروعًا مخالفة لهذه القاعدة فرَّقُوا فيها بين الفاسد والباطل، وقد حصرها النووي في تصنيفه المسمى بالدقائق في أربعة، وهي: الحج والعارية والكتابة والخلع ولم يذكر صورها.... وما ذكره النووي من حصر التفرقة في الأربعة ممنوع؛ بل يتصور أيضًا الفرق في كل عقد صحيح غير مضمون؛ كالإجارة والهبة وغيرهما» [58].
وعبارة النووي في دقائق المنهاج لا تدل على الحصر؛ حيث قال: «واعلم أن الفاسد والباطل من العقود عندنا سواء في الحكم إلا في مواضع منها: الحج والعارية والخلع والكتابة»[59].
ومن ذلك أيضًا قوله: "إذا علمت ذلك فقد وقع هنا للرافعي شيء عجيب [60]، تبعه عليه في الروضة، ونقله عنه أيضًا ابن الرفعة ساكتًا عليه، فقال - في باب الوقف -: ويصح الوقف على المتفقهة وهم المشتغلون بتحصيل الفقه مبتديهم ومنتهيهم، وعلى الفقهاء، ويدخل فيه من حصَّل منه شيئًا وإن قلَّ؛ هذا كلامه، وما ذكره في دخول محصِّل الشيء وإن قلَّ في مسمى الفقيه حتى يستحق من حصَّل المسألة الواحدة، مخالف لجميع ما سبق، ولا أعلم أحدًا ذكره، وكما أنه مخالف للمنقول في المذهب، فهو مخالف للقاعدة النحوية"[61].
وقد ورد في حاشية المخطوط: "قيل المراد بقوله: من حصَّل شيئًا؛ أي: صالحًا يهتدي به إلى الباقي، وإن قلَّ، فعلى هذا لا مخالفة في كلامه، لا نقلًا ولا نحوًا "، قلت: لأن النحو مبني على المعنى.
وقوله: "...حتى بالغ الرافعي وقال: إنه يكفي في علم السنة أن يكون عنده سنن أبي داود، والذي قاله مُتجه؛ فإن ظنَّ العدم يحصل بعدم وجوده فيه، والظن هو المكلف به في الفروع، وبالغ النووي في الردِّ عليه في تمثيله بسنن أبي داود، لتوهمه من كلامه خلاف مراده "[62].
ولم يتوهم المراد، وكان محقًّا فيما قاله وذلك بعد الرجوع للمقصود من مراد الرافعي، والذي بيَّنه الإسنوي في المهمات[63]، وما ذكره الإسنوي لا يدفع الاعتراض الوارد من النووي[64].
3- يستطرد الإسنوي أحيانًا في المسألة الفقهية، وأحيانًا يحيل إليها في كتبه الأخرى، ولا مزيد في كتابه الآخر على ما ذكره هنا[65].
4- أكثر الفروع إلَّا ما ندر هي مخرَّجة على كلام المكلفين، وقد خُرِّجت على أصول الإمام، وتخريج كلام الناس على القواعد الأصولية مشكل.
قال الزركشي في تشنيف المسامع: "...فقد حكى الكيا الطبري خلافًا في أن قواعد أصول الفقه المتعلقة بالألفاظ؛ كالعموم والخصوص وغير ذلك، هل يختص بكلام الشارع أو تجري في كلام الآدمي، وسيأتي في باب العموم حكاية القاضي حسين أيضًا، والراجح الاختصاص...." [66]، أي الاختصاص بكلام الشارع؛ وذلك لأن الناس في الغالب لا يرعون دلالات ألفاظهم، ويغفلون عن مدلولاتها، كما أن العرف، والقصد والنية، لها أثر في أحكام نطقهم.
5- وقع الإسنوي في الخلل من حيث النسبة، وأحيانًا قد لا أجد الفرع في المكان الذي أحال إليه[67].
6- إدراج الفروع المخالفة للقاعدة تحت القاعدة منبهًا على ذلك بقوله: ومن الفروع المخالفة[68]، أو يقول: فروع فيها نظر[69]، أو فروع مشكلة[70]، أو التخريج على ضابط مخالف للقاعدة[71]، ولا أعلم وجهًا لإدراجها ضمن كتاب التخريج؛ لأن إلحاق المخرج يكون على أصول الإمام، وهنا الفروع لا تلحق بها!
والله أعلم وأحكم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] نُشِر في موقع الألوكة بتاريخ 5/ 5/ 1440هـ.
[2]التمهيد (47).
[3] وقفتُ - بفضل الله - على نُسَخ خطية عديدة لكتاب التمهيد، ثمَّ شرعتُ مع بعض الإخوة في تحقيقه، كان نصيبي من بداية الكتاب إلى باب أركان الحكم، بواقع (19) قاعدة مع فروعها.
[4] التمهيد (47).
[5] التمهيد (46-47).
[6] الكوكب الدري (189).
[7] الدرر الكامنة (2/ 149-150).
[8] انظر: الغيث الهامع لولي الدين أبي زرعة العراقي (1/ 333)، والأشباه والنظائر؛ للسيوطي (1/ 207)، وحاشية العطار على شرح المحلي (2/ 42، 430)، والغرر البهية؛ لزكريا الأنصاري (5/ 216)، وحاشية الرملي الكبير على أسنى المطالب (1/ 542) و(3/ 288)، وتحفة المحتاج؛ لابن حجر الهيتمي (10/ 96)، ومغني المحتاج؛ للشربيني (4/ 481)، ونهاية المحتاج للرملي (6/ 182) و(8/ 182)، وإعانة الطالبين؛ للبكري (4/ 251)، وحاشية البجيرمي (4/ 366).
[9] انظر: شرح ابن جماعة على مقدمة التنبيه (8/ 168).
[10] تُحقَّق الآن في جامعة الإمام من الباحث سلمان الهمامي، وقد أفادني بحقيقة اسم الكتاب، وكذا الحاشية السابقة، وأفادني بأن ابن أقبرس ينقل كثيرًا من كتاب شيخه ابن جماعة، وذكر السخاوي في الضوء اللامع هذا المؤلف (5/ 293)، وقال عن ابن أقبرس: "ولكن تصانيفه ليست بذاك".
[11] التمهيد (46-47).
[12] انظر: بغية الوعاة (2/ 93).
[13] انظر: معجم المؤلفين (5/ 203).
[14] انظر: ترجمة الإمام العلامة جمال الدين بن عبدالرحيم الإسنوي؛ لزين الدين العراقي (41).
[15] انظر: التمهيد (47).
[16] انظر: التمهيد (54)، (91)، (93) وغيرها كثير.
[17] انظر: المهمات (1/ 230).
[18] انظر: الكوكب الدري (186، 189، 289، 320، 398).
[19] ترجمة الإمام العلامة جمال الدين بن عبدالرحيم الإسنوي؛ لزين الدين العراقي (41).
[20] انظر: حاشية العطار (2/ 430)، ونهاية المحتاج للرملي (6/ 182) و(8/ 182)، وحاشية البجيرمي (4/ 366).
[21] التمهيد (46).
[22] انظر: الكوكب الدري (188-189).
[23] التمهيد (46-47).
[24] انظر: الذيل على العبر في خبر من غبر (2/ 315)، وبغية الوعاة (2/ 92)، وسبق في الدراسة بيان شيء من النقولات في ذلك.
[25] انظر: الوصول إلى قواعد الأصول؛ للتمرتاشي (113).
[26] سبق الحديث عنها عند الحديث عن اسم الكتاب.
[27] التمهيد (46).
[28] التمهيد (46).
[29] التمهيد (46).
[30] أدب المفتي (94-59)، وأدب الفتوى؛ للنووي (26)، والمجموع (1/ 43).
[31]انظر: المهمات؛ للإسنوي (1/ 147-148)، والمجموع (1/ 72).
[32] التمهيد (51).
[33] التمهيد (86).
[34] التمهيد (77).
[35] التمهيد (61).
[36] التمهيد (83).
[37] التمهيد (101).
[38] التمهيد (46).
[39] التمهيد (502).
[40] المجموع (1/ 65).
[41] التمهيد (46).
[42] التمهيد (55،58).
[43] الكوكب الدري (190).
[44]انظر: مقدمة كتاب الكوكب الدري، تحقيق الدكتور محمد حسن عواد (ص176).
[45] انظر ما سبق في مؤلفاته.
[46] التمهيد (49).
[47] التمهيد (80).
[48] التمهيد (63).
[49] التمهيد (64).
[50] التمهيد (54).
[51] التمهيد (55-56).
[52] التمهيد (92).
[53] المهمات (1/ 131).
[54] التمهيد (60).
[55] التمهيد (61).
[56] انظر: الكوكب الدُّري (188).
[57] قال ابن خطيب الدهشة في مقدمة كتابه (1/ 63-64): "...أما بعد: فهذا مختصر من قواعد العلائي وكلام الإسنوي رحمهما الله تعالى...والترجمة بمسألة: علامة، للإمام الإسنوي ".
[58] انظر: التمهيد (60).
[59] دقائق المنهاج (77).
[60] انظر: العزيز شرح الوجيز(6/ 261).
[61] انظر: التمهيد (54).
[62] قال النووي في روضة الطالبين (11/ 95) عند حديثه عن صفات القاضي وشروطه: "قلت: لا يصح التمثيل بسنن أبي داود، فإنه لم يستوعب الصحيح من أحاديث الأحكام ولا معظمه، وذلك ظاهر؛ بل معرفته ضرورية لمن له أدنى اطِّلاع، وكم في صحيح البخاري ومسلم من حديث حكمي ليس في سنن أبي داود، وأما ما في كتابي الترمذي والنسائي وغيرهما من الكتب المعتمدة فكثرته وشهرته غنية عن التصريح بها، والله أعلم".
[63] بيَّن الإسنوي في المهمات (9/ 214) مقصوده بتوهم النووي، فقال: "وهذا الذي ذكره لا يرد؛ فإنه لم يدع استيعاب الأحكام؛ بل ادَّعى الاعتناء فيه بالجمع، ولا شك أن السنن المذكورة كذلك، ونظيره أن تقول: إن الرافعي قد اعتنى في شرحه بجميع الأحكام وإن فاته مسائل كثيرة مذكورة في المطولات والمختصرات".
قلت: والذي أوجب هذا الاعتراض القول بأن عبارة الغزالي في المستصفى هي بــ (بجميع) وذلك في قوله في المستصفى (2/ 348): " بل يكفي أن يكون له أصل مصحح وقعت العناية فيه بجميع أحاديث الأحكام كسنن أبي داود "، ونقل ذلك في بعض نسخ الرافعي، والذي قاله الغزالي ونقله الرافعي وغيره عنه هو قوله: (بجمع) من غير ياء بعد الميم.
ولكن هذا التعليل لا يدفع السؤال والاعتراض؛ لأنه إذا علم إهماله لكثير من الأحاديث فلا يكفي في نفي الحديث عدم وجوده فيه، لاحتمال وجوده في غيره، فلا تقع الكفاية بسنن أبي داود إذًا.
انظر: نقاش العلماء حول هذه المسألة في: البحر المحيط للزركشي (6/ 201)، وفتح المغيث للسخاوي (1/ 88)، وبذل المجهود للسخاوي (37-38).
[64] بل ظهرت من الإسنوي – عفا الله عنا وعنه – شدة اتجاه النووي – رحمه الله - ومن ذلك قوله: "والذي قاله ذهول عجيب، وغفلة فاحشة "، وقوله: "والذي ذكره النووي غلط فاحش"، وينظر: التمهيد (115).
[65] التمهيد (54).
[66] تشنيف المسامع (1/ 368).
[67] بينتها وأشرت إلى مواضعها أثناء التحقيق.
[68] التمهيد (55، 58، 392، 440، 471).
[69] التمهيد (116، 167).
[70] التمهيد (208، 241، 300، 374).
[71] التمهيد (386).