مكتبة الموقع
احصائية الزوار
لهذا اليوم : 49
بالامس : 24
لهذا الأسبوع : 407
لهذا الشهر : 1394
لهذه السنة : 15847
المتواجدين الآن
يتصفح الموقع حالياً 19
تفاصيل المتواجدين
الجملة الشرطية وأثرها في استنباط الأحكام
المقال
الجملة الشرطية وأثرها في استنباط الأحكام
127 |
11-08-2024
عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ونبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فهذه مقالة عن الجملة الشرطية، وكيفية استنباط الأحكام منها، أُجملها في الأمور الآتية:
الأمر الأول: يتكلم الأصوليون عن الشرط في مباحث الحكم الشرعي الوضعي باعتباره أحد أقسامه، ويفرقون بينه وبين السبب؛ بأن الشرط لا يلزم من وجوده الوجود بخلاف السبب، وهم هنا يتحدثون عن الشرط الشرعي لا الشرط اللغوي؛ الذي هو تعليق حصول مضمون جملة على حصول مضمون أخرى بأداة من أدوات الشرط.
والشرط الشرعي يثبُت بالشرط اللغوي وغيره، فالطهارة شرط شرعي لصحة الصلاة، وهذا الحكم قد يثبت بالجملة الشرطية؛ كقوله عليه السلام: ((إذا أحدث أحدكم فليتوضأ))[1]، وبغير الشرطية؛ كقوله عليه السلام: ((لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ))[2]، و(إذا) في الحديث الأول شرطية، وفي الثاني ظرفية.
الأمر الثاني: تكلم الأصوليون عن الشروط اللغوية في مواضع:
الموضع الأول: في الحكم الوضعي؛ حيث اعتبر الأصوليون الشروط اللغوية أسبابًا.
يقول القرافي في (شرح التنقيح) بعد أن ذكر الأحكام الوضعية: "فوائد خمس... الخامسة: الشروط اللغوية أسباب؛ لأنه يلزم من وجودها الوجود ومن عدمها العدم، بخلاف الشروط العقلية كالحياة مع العلم، والشرعية كالطهارة مع الصالة، والعادية كالغذاء مع الحياة في بعض الحيوانات، إذا قلت: إن دخلت الدار فأنت حر، يلزم من دخول الدار الحرية، ومن عدم دخولها عدم الحرية، وهذا هو شأن السبب، أن يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته، كما تقدم تحديده"[3] أ.هـ، وفي الحديث السابق: ((إذا أحدث أحدكم فليتوضأ))، يُقال: يلزم الوضوء من المحدِث، ولا يلزم من غير المحدث، فالحدث سبب الوضوء، لمن أراد الصلاة.
الموضع الثاني:في أساليب الطلب، من حيث كونه أسلوبًا من أساليب الأمر، المقتضي للوجوب، وذلك عندما يقع جوابًا للشرط وجزاءً له.
وهنا قد يشترك مع بعض الصيغ الصريحة الدالة على الطلب، عندما يكون جواب الشرط طلبيًّا، أو مصدرًا، وقد لا يشترك معها.
قال الزركشي: "المراد بصيغة (افعل) لفظها وما قام مقامها من اسم الفعل كصَهْ، والمضارع المقرون باللام... وكذلك المصدر المجعول جزاء الشرط بحرف الفاء؛ كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ [النساء: 92]؛ أي: فحرروا، وقوله: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ [محمد: 4]؛ أي: فاضربوا الرقاب، وقوله﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ﴾ [البقرة: 196]؛ أي: فافدوا، وقوله: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: 184]؛ أي: صوموا"[4].
ومثال كون جواب الشرط طلبيًّا سواء كان طلب فعل (أمر)، أو طلب ترك (نهي) ما يأتي:
مثال الأمر: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: 198]، ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ [المائدة: 6].
مثال النهي: قوله تعالى: ﴿إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ﴾ [النساء: 140]، وقوله: ﴿إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ﴾ [الأنفال: 15].
ويمكن القول في مأخذ الحكم في هذا الموضع: لدلالة الدليل على الحكم بصيغته الصريحة المقتضية للوجوب مثلًا، إن كان جواب الشرط مشتركًا بإحدى الصيغ الصريحة، فيُقال: واجب؛ لكون الأمر واردًا بصيغة كذا، والأمر يقتضي الوجوب، أو حرام؛ لورود النهي بصيغته الصريحة: ﴿إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ﴾ [الأنفال: 15]، والنهي يقتضي التحريم، أو يُقال: واجب لوقوعه جزاء للشرط، أو لوقوعه جواب الشرط، ولا فرق بين العبارتين.
يقول الشيخ حافظ الحكمي في منظومته وسيلة الحصول إلى مهمات الأصول[5]:
أربع ألفاظ بها الأمر دُري
افعل لتفعل اسم فعل مصدرِ
وقد يُساق في مساق الخبرْ
وبالجزا ونحوه فاعتبرْ
مثال آخر: ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من مات ولم يغْزُ، ولم يحدِّث نفسه به، مات على شعبة من نفاق))؛ [رواه مسلم][6]،
استُدل بالحديث على وجوب العزم على الجهاد.
فيُقال: مأخذ الحكم: جعل الشارع جزاءَ مَن لم يغزُ أن يموت على شعبة من شعب النفاق، وهذا ذم ووعيد، والذم والوعيد لا يكون إلا على من ترك واجبًا.
الموضع الثالث:تكلم الأصوليون عن أدوات الشرط باعتبارها صيغًا من صيغ العموم، وذلك عند حديثهم عن الأسماء المبهمة، ومنها (من)، و(ما)، (مهما)، و(متى)، و(أي)، و(أيان) وغيرها مما يأتي.
ومأخذ الحكم ظاهر؛ حيث يُستدَل بالصيغة على عموم ما يدل تحتها، فيُقال – مثلًا - في استنباط وجوب العزم على الجهاد من الحديث السابق على كل مسلم؛ لعموم قوله: (من)، وهي أداة شرط تقتضي العموم.
الموضع الرابع: تكلم الأصوليون عن جواب الشرط، إن ورد بعد جمل متعاطفة، وبينوا أنه يرجع إلى جميع الجمل، فيحكم على موته على شعبة من شعب النفاق إن لم يغزُ، ويحكم على موته على شعبة من شعب النفاق إن لم يحدِّث نفسه بالغزو.
الموضع الخامس: ذكر الأصوليون أن الشرط اللغوي من المخصصات المتصلة.
قال القرافي في نفائس الأصول: "... ثم إنا نتكلم في الشرط المخصص: هذه الشروط ليست مخصصة، بل المخصص هو الشرط المفسر بالتعليق اللغوي الذي هو سبب في نفسه، لا شرط"[7].
ويمكن التمثيل له بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾ [التوبة: 5]، وتخلية سبيلهم عام؛ لكونه معرَّفًا بالإضافة، لكنه مخصوص بما ذكر من التوبة، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة.
الموضع السادس: ذكر الأصوليون أن الشرط اللغوي من المقيدات التي يقيد بها الإطلاق.
قال الطاهر ابن عاشور: "إذا كانت جملة الجواب لا تشتمل على عموم، فالشرط حينئذٍ تقييد لإطلاقها، لا تخصيص"[8].
ففي قوله: ((من مات ولم يغزُ، ولم يحدِّث نفسه به، مات على شعبة من نفاق))، أطلق الموت في جواب الشرط؛ لكونه فعلًا في سياق الإثبات، والأفعال بمنزلة النكرات، فيكون مطلقًا، وهذه الميتة على شعبة من النفاق مقيدة بالشرط المذكور.
الموضع السابع: تكلم الأصوليون عن دلالة المفهوم، ومنها مفهوم الشرط المخالف.
يقول الآمدي عند تعداده لأنواع المفهوم المخالف: "الصنف الثاني: مفهوم الشرط والجزاء كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ﴾ [الطلاق: 6]"؛ أ.هـ[9]، ومفهومه إن كانت المطلقة حائلًا لا تجب النفقة عليها.
وقد اختلف الأصوليون في اعتبار هذه الدلالة في الحُجِّيَّة، وبينوا سبب الخلاف؛ ومن ذلك قول التفتازاني في (التلويح): "التحقيق في الجملة الشرطية عند أهل العربية: أن الحكم هو الجزاء وحده، والشرط قيد له بمنزلة الظرف والحال، حتى إنَّ الجزاء إنْ كان خبرًا فالشرطية خبرية، وإن كان إنشاء فإنشائية، وعند أهل النظر أن مجموع الشرط والجزاء كلام واحد دالٌّ على ربط شيء بشيء، وثبوته على تقدير ثبوته من غير دلالة على الانتفاء عند الانتفاء، فكلٌّ من الشرط والجزاء جزء من الكلام، بمنزلة المبتدأ والخبر.
فمال الشافعي رحمه الله تعالى إلى الأول، وجعل التعليق إيجابًا للحكم على تقدير وجود الشرط، وإعدامًا له على تقدير عدمه، فصار كل من الثبوت والانتفاء حكمًا شرعيًّا ثابتًا باللفظ، منطوقًا ومفهومًا، وصار الشرط عنده تخصيصًا وقصرًا لعموم التقادير على بعضها.
ومال أبو حنيفة رحمه الله تعالى إلى الثاني؛ فجعل الكلام موجبًا للحكم على تقدير وجود الشرط، ساكتًا عن النفي والإثبات على تقدير عدمه، فصار انتفاء الحكم عدمًا أصليًّا مبنيًّا على عدم الثبوت، لا حكمًا شرعيًّا مستفادًا من النظم، ولم يكن الشرط تخصيصًا؛ إذ لا دلالة على عموم التقادير حتى يقصر على البعض"[10].
وهنا يكون مأخذ الحكم أن يُقال – مثلًا - كما في حديث أبي هريرة: دلَّ مفهوم الحديث المخالف أن من مات وقد غزا أو حدَّث نفسه بالغزو، لم يمت على شعبة من شعب النفاق، فيقتضي نقيض الحكم.
الموضع الثامن: تكلَّم الأصوليون عن الجملة الشرطية عند حديثهم عن مسلك الإيماء والتنبيه، من مسالك العلة، وجعلوا من أنواع هذا المسلك ترتُّب الحكم على الوصف بصيغة الجزاء والشرط؛ أي إن فِعْلَ الشرط يكون وصفًا وعلة، وجواب الشرط هو الحكم، وجعله البعض ضربًا مستقلًّا عنه.
قال الغزالي: "الضرب الثاني: التنبيه والإيماء على العلة... الضرب الثالث: التنبيه على الأسباب بترتيب الأحكام عليها بصيغة الجزاء والشرط، وبالفاء التي هي للتعقيب والتسبيب؛ كقوله عليه السلام: ((من أحيا أرضًا ميتة فهي له))[11]"[12].
وكذا ذكروا الجملة الشرطية في مسلك الإيماء والتنبيه، عند تفريق الشارع بين حكمين بالشرط اللغوي؛ كما في حديث الربا: ((الذهب بالذهب... فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد))؛ [الحديث][13]، فالتفريق بين منع بيع الجنس بجنسه متفاضلًا، وبين جوازه بغير جنسه، لو لم يكن لعِلِّيَّة الاختلاف للجواز لكان بعيدًا.
فيذكر في مأخذ الحكم دلالة الإيماء والتنبيه على كون الوصف علة للحكم، فعلة موته على شعبة من شعب النفاق كونه لم يغزُ، ولم يحدِّث نفسه بالغزو، وسبب تملُّكه للأرض إحياؤها.
الأمر الثالث: إذا تبين ما سبق فقد تظهر للمستنبط إشكالات في معرفة كون الجملة المذكورة جملة شرطية أو لا؟ وهل الجواب مذكور أو محذوف؟ وغير ذلك من الإشكالات؛ لذا أقف مع الباحث الأصولي وقفات مع قواعدَ قد تساعد في التعامل مع هذا الإشكال، فأقول:
النقطة الأولى: الوقوف على تعريف الجملة الشرطية وأدوات الشرط، والعلاقة بين جملتي الشرط.
فالجملة الشرطية هي: تعليق حصول مضمون جملة على حصول مضمون أخرى بأداة من أدوات الشرط[14]، وهي تتكون من جزأين: الشرط، والجواب أو الجزاء، تربط بينهما كلمة شرطية، وهذه الكلمة قد تكون حرفًا، وقد تكون اسمًا.
والحروف هي: إن، إذما، لو.
والأسماء: من، ما، مهما، متى، أي، أيان، أين، أنى، حيثما، إذا.
ولهذه الأدوات من حروف وأسماء استخدام ومعنًى، يمكن الإفادة منها في استنباط الأحكام، فحرف (لو) يدل على امتناع الجواب لامتناع الشرط.
مثال ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كتب عليكم الحج، فقام الأقرع بن حابس فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ قال: لو قلتها لَوَجَبَتْ، الحج مرة، فما زاد فهو تطوع))[15]، فإن حرف (لو) دلَّ على امتناع وجوب الحج كل عام لامتناع قوله وأمره عن ذلك.
كما أن الإبهام في الأسماء الشرطية السابقة: من، ما، مهما، متى، أي، أيان، أين، أنى، حيثما، يفيد العموم كما سبق؛ لأنها لا تختص بشيء بذاته، ولا بإنسان بذاته، ولا بمكان أو زمان، أو بهيئة على وجه التحديد، فهي نكرة عامة.
يقول الدكتور عبده الراجحي: "وفكرة الإبهام تستدعي معها أن تدل جملة الشرط على زمن المستقبل؛ إذ إن الشرط ينبغي أن يكون عامًّا في المستقبل، ولا معنى لذلك في الماضي الذي يكتسب تحديده من حدوثه قبل وقت التكلم، وعلى ذلك: إن تجتهد تنجح، من يجتهد ينجح، إذا اجتهدت نجحت، متى يأتِ يلقَ ترحيبًا، تنصرف جميعها إلى المستقبل"[16].
أي: إن جواب الشرط ولو ورد بصيغة الماضي، فإنه يُحمَل على المستقبل[17].
يقول الرازي في تفسيره: "قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا﴾ [البقرة: 184]، إلى قوله: ﴿أُخَرَ﴾ [البقرة: 184]، فيه معنى الشرط والجزاء؛ أي: من يكن منكم مريضًا أو مسافرًا، فأفطر فلْيَقْضِ، وإذا قدرت فيه معنى الشرط كان المراد بقوله: ﴿كَانَ﴾ الاستقبال لا الماضي، كما تقول: من أتاني أتيته"[18].
النقطة الثانية: سبق القول: إن الأصوليين يعتبرون الشروط اللغوية أسبابًا، وترتب الحكم على الوصف بصيغة الجزاء والشرط من مسالك العلة؛ وذلك لأن العلاقة بينهما علاقة علية؛ أي: إن الشرط علة للجواب.
يقول الطوفي: "فائدة: اعلم أن في باب الشرط والجزاء لا يكون ما بعد الفاء إلا حكمًا وما قبلها سبب؛ لأن جواب الشرط متأخر عن الشرط في وضع اللغة تحقيقًا، نحو: إن كنت مؤمنًا، فاتَّقِ الله، أو تقديرًا، نحو: اتَّقِ الله إن كنت مؤمنًا، والسبب في ذلك أن الشرط لازم، والمشروط ملزوم، والملزوم إنما يكون بعد اللازم، وثبوته فرع على ثبوته..."[19].
النقطة الثالثة: تحتمل بعض الأدوات أن تكون شرطية، أو غير شرطية، كأن تكون موصولة أو ظرفية، متضمنة للشرطية.
ومثال الأول: اسم (من) الشرطية، فإنها تحتمل في مواضع كثيرة أن تكون موصولة، والْمُعْرِبون والمفسرون يقتصرون في الغالب على ذكر أحد الوجهين: الشرطية أو الموصولة، ذكر ذلك الدكتور عبدالخالق عضيمة ومثَّل لذلك بأمثلة كثيرة[20].
وعليه؛ فالأصولي والفقيه المستنبط للأحكام يَسَعُهُ ما وسِع مَن قبله، فإن اعتبرها شرطية أجرى عليها القواعد الأصولية السابقة.
ومثال الثاني: اسم (إذا) الشرطية، فالأصل فيه كونها ظرفية، لكنها تتضمن معنى الشرطية، فتأخذ حكمها، فهي ظرف متضمن لمعنى الشرط غالبًا، وكذا اسم الموصول (الذي) فإنه قد يتضمن معنى الشرط ويأخذ حكمه، ويلحق جوابه الفاء.
مثال الأول: يقول الرازي في تفسيره عند إعراب قوله تعالى: ﴿فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ﴾ [الرحمن: 37]: "... إذا عرفت هذا فنقول: على أي وجه استعمل (إذا) ها هنا؟
نقول: يحتمل وجهين؛ أحدهما: الظرفية المجردة على أن الفاء للتعقيب الزماني، فإن قوله: ﴿فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ﴾ [الرحمن: 37] بيان لوقت العذاب، كأنه قال: إذا انشقت السماء يكون العذاب؛ أي بعد إرسال الشواظ، وعند انشقاق السماء يكون.
وثانيهما: الشرطية وذلك على الوجه الثالث؛ وهو قولنا: ﴿فَلَا تَنْتَصِرَانِ﴾ [الرحمن: 35] عند إرسال الشواظ فكيف تنتصران إذا انشقت السماء، كأنه قال: إذا انشقت السماء فلا تتوقعوا الانتصار أصلًا"[21].
ويقول الرازي: "القائلون بأن قوله: ﴿وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [النساء: 33] مبتدأ، وخبره قوله: ﴿فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ﴾ [النساء: 33] قالوا: إنما جاء خبره مع الفاء لتضمن (الذي) معنى الشرط"[22].
وقال أيضًا: "اعلم أن قوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي﴾ [النور: 2] رفعهما على الابتداء والخبر محذوف عند الخليل وسيبويه، على معنى: فيما فرض الله عليكم الزانية والزاني؛ أي فاجلدوهما، ويجوز أن يكون الخبر ﴿فَاجْلِدُوا﴾ [النور: 2]، وإنما دخلت الفاء لكون الألف واللام بمعنى (الذي)، وتضمنه معنى الشرط، تقديره: التي زنت والذي زنى فاجلدوهما، كما تقول من زنى، فاجلدوه"[23].
والنحاة وضعوا ضوابط للتمييز بين الشرطية وغيرها، لكن أساليب العرب في التضمين يجعل فيها من الخفاء ما فيها، فنجد فحول علماء اللغة يستدرك بعضهم على بعض في هذا.
النقطة الرابعة:يجوز حذف جواب الشرط إن دلَّ سياق الكلام عليه.
كقوله صلى الله عليه وسلم لمن غسل ابنته: ((اغسِلْنَها خمسًا، أو سبعًا، أو أكثر من ذلك إن رأيتن وسدر، واجعلن في الأخيرة كافورًا، أو شيئًا من كافور))؛ [الحديث][24].
قال ابن فرحون: "قوله: (إن رأيتن): (إن) حرف شرط... وجواب (إن) الشرطية محذوف، يدل عليه (اغسلنها)؛ أي: إن رأيتن ذلك نظرا فاغسلنها"[25].
وللمستنبط هنا فائدة، وذلك لأن حذف الجواب يكون أحيانًا لغرض التعميم أو المبالغة والتهويل في المنع، أو المبالغة في الحض والطلب.
يقول الرازي بعد كلامه السابق في إعراب لقوله: ﴿فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ﴾ [الرحمن: 37]، وهل (إذا) ظرفية أو شرطية، قال: "... المسألة الثالثة: ما المختار من الأوجه؟ نقول: الشرطية وحينئذٍ له وجهان؛ أحدهما: أن يكون الجزاء محذوفًا رأسًا؛ ليفرض السامع بعده كل هائل، كما يقول القائل: إذا غضب السلطان على فلان، لا يدري أحد ماذا يفعله، ثم ربما يسكت عند قوله: إذا غضب السلطان، متعجبًا، آتيًا بقرينة دالة على تهويل الأمر، ليذهب السامع مع كل مذهب، ويقول: كأنه إذا غضب السلطان يقتل، ويقول الآخر: إذا غضب السلطان ينهب، ويقول الآخر غير ذلك..."[26].
وقد ذكر العز بن عبدالسلام في كتابه (الإمام في بيان أدلة الأحكام) في أنواع المحذوفات، حذف جواب الشرط، فقال: "النوع الثامن: حذف جواب الشرط فمن ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ﴾ [فاطر: 4]، ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [فاطر: 25] جوابه محذوف، تقديره: فتأس بمن كذب قبلك من المرسلين، ولا يصح أن يكون قوله: ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ﴾ [فاطر: 4]... وكذلك قوله: ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 227]، لا يصح ترتيب سمعه وعلمه على عزيمة الطلاق والجزاء، فليحذروا أذيتهن بقول يسمعه الله أو فعل يراه الله، وكذلك قوله: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ [البقرة: 197]؛ أي: يجازيكم عليه وهذا بعرف الاستعمال"[27].
النقطة الخامسة: قد تحذف الأداة، فتُقدَّر، ويمكن التمثيل له بما ورد أن شريك بن سحماء قذفه هلال بن أمية بامرأته؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيِّنة وإلا فحدٌّ في ظهرك...))؛ [الحديث][28]، فاستدل بالحديث على أن الزوج إذا عجز عن البينة على ما ادعاه من ذلك الأمر، وجب عليه الحد؛ وذلك بجعل قوله: ((فحدٌّ في ظهرك)) وهو الحكم، جوابًا وجزاء للشرط المحذوف، وتقديره: وإن لا تحضرها، فجزاؤك حد في ظهرك.
النقطة السادسة: قال القرافي في نفائس الأصول: "المسألة الثامنة: يجوز تقديم الشرط وتأخيره في اللفظ"؛ أ.هـ[29].
وتقييده باللفظ؛ لأن المعنى لا يجوز تقديم الجواب عليه، وسبق أن الشرط لازم والمشروط ملازم، والملازم إنما يكون بعد اللازم، كما سبق في كلام الطوفي.
قال التفتازاني: "كل جزاء قُدِّم على الشرط، فهو إخبار بما فيه من النسبة، لا جزاء لِما بعده من الشرط، لكنه دلَّ على الجزاء المحذوف، وهذا إشارة إلى أن الخبر في مثل: إن دخلت الدار أكرمك، هو الجملة الشرطية بكمالها، لا مجرد الجزاء"[30].
[1] معجم الصحابة للبغوي (1832).
[2] البخاري (6954)، ومسلم (225).
[3] شرح التنقيح (85).
[4] البحر المحيط (3/ 274).
[5] وسيلة الحصول إلى مهمات الأصول، بيت رقم ( 208)، و(209).
[6] سنن أبي داود (1/ 562)، والمستدرك (2/ 79).
[7] نفائس الأصول (5/ 2040).
[8] حاشية التوضيح (1/ 252).
[9] إحكام الأحكام (3/ 70).
[10] التلويح على التوضيح (1/ 281).
[11] أخرجه موطأ مالك (2752)، مسند الشافعي (1497)، وأبو داود (3070)، والنسائي في الكبرى (5762)، والبيهقي (6/ 142).
[12] المستصفى (309).
[13] أخرجه مسلم (1587)، وأبو داود (3349)، والترمذي (1240)، والنسائي (7/ 276)، وابن ماجه (2254).
[14] حاشية الدسوقي على مختصر المعاني لسعد الدين التفتازاني (2/ 52).
[15] أخرجه أحمد في المسند (1/ 255)، والدارمي في السنن (2/ 39)، أبو داود في السنن (1721).
[16] التطبيق النحوي (321).
[17] قد تنسلخ (إذا) من المستقبل مع وجود الشرط، كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا﴾ [الجمعة: 11]، وكقوله: ﴿إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ﴾ [التوبة: 92]، فهي شرطية ومع ذلك خرجت عن الاستقبال.
[18] تفسير الرازي (5/ 243).
[19] شرح مختصر الروضة (3/ 367).
[20] ينظر: دراسات لأسلوب القرآن الكريم (3/ 156) وما بعدها.
[21] تفسير الرازي (29/ 3464).
[22] تفسير الرازي (10/ 69).
[23] تفسير الرازي (23/ 302).
[24] أخرجه البخاري (1196)، ومسلم (939).
[25] العدة في إعراب العمدة (2/ 205).
[26] تفسير الرازي (29/ 365).
[27] الإمام في بيان أدلة الأحكام (214).
[28] أخرجه البخاري (4747).
[29] نفائس الأصول (5/ 2059).
[30] حاشية سعد الدين التفتازاني على شرح الإيجي على مختصر ابن الحاجب (3/ 65).